وإذا كان النداء هو طلب الإقبال، فإن الأصل فيه أن يكون للقريب الذي لا يجاوز امتداد صوت المنادي، ولكنهم توسعوا فيه فنادوا البعيد الذي لا يمكن أن يسمع صوت المنادي، أو بمعنى آخر: الذي لا يمكن أن يصل إليه صوته، وجعلوا لندائه أدوات، ولنداء القريب أدوات، ولم يتوقفوا عند نداء البعيد الذي لا يصله صوت المنادي، بل اتسع تصرفهم في النداء، فنادوا غير الحي العاقل كالناقة والطير والوحش، ومشاهد الطبيعة من برق وسحاب وأقمار وشموس وأشجار وأرض وسماء وجبال إلى غير ذلك، وقد يُنزّل البعيد منزلة القريب فينادى بالهمزة وأي لغرض بلاغي، وهو الإشعار بأنه حاضر في القلب لا يغيب عن الخاطر، حتى صار كأنه حاضرٌ مشاهد، ومن ذلك قول الشاعر:
أسكان نعمان الأراك تيقنوا ... بأنكم في ربع قلبي سكان
فهو ينادي سكان هذا الوادي، وقد عبر بالهمزة الموضوعة لنداء القريب لينبئ بأنهم قريبون منه لا يتركون فكره ولا يبرحون خياله. كما قد ينزّل القريب منزلة البعيد فينادى بغير الهمزة وأي لأغراض بلاغية؛ أهمها الإشعار ببعد منزلته وعلو مكانته، فينزّل بعد المنزلة وعلو المكانة منزلة البعد المكاني، كما في قول الله تعالى: {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} (مريم: 44، 45) الإشعار بأن المنادى وضيع المنزلة منحط المكانة، وكأنه بعيدٌ عن القلب فينزل هذا البعد النفسي منزلة البعد المكاني، ومنه قول الفرزدق في هجاء جرير:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعتنا يا جرير المجامع