وإنما قلنا: من مستتبعات التراكيب؛ لأن الاستفهام قد دخلته هذه المعاني، وشابته وصار بإفادته لها استفهامًا غير محض؛ إذ التنبيه وإيقاظ المخاطب، وحثه على التأمل الذي هو لب الاستفهام؛ لا يفارقه عند إفادة تلك المعاني، التي منها الاستبطاء، كما في قول الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} (البقرة: 214) فالخطاب في الآية الكريمة للصحابة -رضوان الله عليهم- والمعنى: أحسبتم أن تدخلوا الجنة بلا ابتلاء وتمحيص، وقد جرت سنة الله أن يبتلي عباده! فقد ابتلى الأمم قبلكم ابتلاءً شديدًا، ومستهم البأساء والضراء حتى قال الرسول -وهو أعلم الناس بالله وأوثقهم بنصره- وقال الذين آمنوا معه لشدة ما حلّ بهم ونزل: متى نصر الله؟ فقد استطالوا مدة العذاب واستبطئوا مجيء النصر، وسر التعبير بأسلوب الاستفهام في مقام الاستبطاء هو إظهار المعاناة من طول الانتظار وجذب انتباه السامع ودعوته للمشاركة والنظر فيما نزل وحل، ولا يخفى عليك ما للسياق في الآية الكريمة من إبراز وتصوير لحال هؤلاء القائلين وما حل بهم من ابتلاء وشدة، جعلتهم يتطلعون إلى فرج الله ونصره، الذي طال انتظارهم له.

ومن ذلك أن تقول وقد اشتد الحر وأنت صائم: متى يؤذن لصلاة المغرب؟ فأنت لا تجهل موعد الأذان والإفطار، ولكنك تصور حالتك وطول انتظارك وترقبك لهذا الوقت، وتدعو المخاطب ليشاركك ما تعاني منه وتتطلع إلى تفريجه، ومثل قولك وقد طال انتظارك للقطار: متى يصل القطار! وقولك لصاحب لك تدعوه كثيرا للحضور وهو يماطل ويتأخر ولا يجيب دعوتك: كم دعوتك! فأنت تستبطئ إجابته وتحثه على مراجعة نفسه ومعرفة تقصيره وخطئه، ومن ذلك قول المتنبي:

حتى ما نحن نساري النجم في الظلم ... وما سراه -أي النجم- على خف ولا قدم

طور بواسطة نورين ميديا © 2015