وقد قالوا في تحديد مفهوم الأمر: هو طلب حصول الفعل على جهة الاستعلاء. هذا هو مفهوم الأمر حيث يكون من الأعلى إلى الأدنى. فالأعلى يطلب ممن هو دونه حصول الفعل وتحقيقه ويبعثه ويحثه عليه. وهذا هو الأصل فيه؛ لأنه هو المتبادَر إلى الذهن عند سماع الأمر كما ذكر الخطيب.
وقد تستعمل صيغ الأمر في غير هذا الأصل الذي وُضعت له، فتفيد الإباحة أو الدعاء أو التهديد أو التمني أو الحث والإثارة أو الاستمرار والدوام على تحقيق الفعل، إلى غير ذلك من المعاني التي تفيدها هذه الصيغ بمعونة السياق وقرائن الأحوال. وقد اهتم البلاغيون بالحديث عن هذه المعاني وتجليتها والكشف عن دقائقها، ومزاياها في التعبير فذكروا أن الأمر يأتي أحيانًا للإباحة، وذلك عندما تستعمل صيغة الأمر في مقام يتوهم فيه السامع حاظر شيء عليه.
ومن جميل ذلك قول كثير عزة:
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لدينا ولا مقلية إن تقلت
القلي: يعني البغض والكراهية، أي: أنت لست ملومةً ولا مخليةً: أي: مكروهة. فكثير يبيح لعزة أن تسيء إليه أو تحسن فهو راضٍ في الحالين غاية الرضا. فسر جمال هذا التعبير -أي: التعبير بصيغة الأمر في مقام الإباحة في هذا البيت- أنه يكشف لنا عما أصاب الشاعر من عشق وهيام، وقد وصل به إلى منتهاه، حتى صار يطلب منها الإساءة كما يطلب منها الإحسان ويلح في ذلك إلحاحًا، وكأن الإساءة أمر مطلوب مرغوب. فالإنسان عندما يصل به الحب إلى حد الإفراط يصير كل فعل يصدر عن حبيبه لا يراه إلا جَمالًا.
وبهذا يتضح لك أن استعمال الشاعر لصيغة الأمر في مكان الإباحة يكشف عن مكنون نفسه، ويبرز ما بداخله بأخصر طريق وأجمله.