الناس في تلك الحال سَقْي، ومن المرأتين ذود، وأنهما قالتَا: لا يكون منا سقي حتى يصدر الرعاء، وأنه كان من موسى -عليه السلام- من بعد ذلك سقي. فأما ما كان المسقى أغنمًا أم إبلًا أم غيرَ ذلك؟ فخارج عن الغرض وموهم خلافَه؛ فذلك أنه لو قيل: وجد من دونهم امرأتين تذودان غنمهما، جاز أن يكون لم ينكر الذود، لا من حيث هو ذود، بل من حيث هو ذود غنم حتى لو كان مكان الغنم الإبل لم ينكر الذود، ثم إنك إذا قلت: ما لك تمنع أخاك؟ كنتَ منكرًا المنع، لا من حيث هو منع بل من حيث هو منع أخ.
انتهى من كلام عبد القاهر في (الدلائل).
وقد يكون الغرض من طي المفعول والسكوت عنه هو إثبات المعنى في نفسه للفاعل دون قصد إلى مفعول معين، إلا أن هذا الإثبات المطلق يستلزم إثباتًا مقيدًا، انظر مثلًا إلى قول البحتري يمدح الخليفة المعتز، ويعرِّض بالمستعين:
شجو حساده وغيظ عُداه ... أن يرى مبصرٌ ويسمع واع
فالمعنى: إنما يؤلم حساده، ويغيظ أعداءَه أن يوجد في الدنيا مَن يرى ويسمع، من يرى مبصر ويسمع واعْ؛ لأنه إذا وجد من يرى ويسمع فسوف يرى قطعًا مآثرَه وأمجاده، وسوف يسمع لا محالة عن محاسنه وسيرته، فقد اشتهرت محاسنه وذاعت مآثره، بحيث لا تخفى على من يسمع ويرى؛ لأنها ملأت الآفاق، وحلت بكل موضع. والذي يحزن حساده ويغيظ أعداءَه -يعرِّض بالمستعين- أن يوجد من يرى ومن يسمع؛ لأن وجوده يستلزم أن يسمع أخبار المعتز، وأن يرى فضائله ومحاسنه.
ولذا يذكر الخطيب: أن الفعل مطلقًا قد جُعل كنايةً عن الفعل مقيدًا بمفعول مخصوص، إذ بين مجرد الرؤية والسماع، وبين رؤية المحاسن وسماع الأخبار تلازم وارتباط. كذا كذا ذكره الخطيب في (الإيضاح)