ومن ذلك: قول الله تعالى في وصف خبر الجنة: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ * لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} (الصافات:45: 47). فالتقديم الجار والمجرور في قوله: {لَا فِيهَا غَوْلٌ} أفاد نفي الغول عن خمر الجنة وإثباته لخمور الدنيا. أو بمعنى آخر: أفاد قصر عدم الغول على خمر الجنة، بحيث لا يتجاوزه إلى خمور الدنيا. ولو قيل: لا غول فيها؛ لأفاد ذلك مجرد نفي الغول عن خمر الجنة دون تعرض لخمور الدنيا.
ولذا جاء قوله تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} (البقرة: 1، 2). كذا بدون تقديم، إذ المراد: نفي الريب عن القرآن دون تعرض لغيره من الكتب السماوية. ولو قيل: لا فيه ريب؛ لأدى هذا إلى في الريب عن القرآن، وإثباته لغيره من الكتب السماوية، وهو غير مراد، ومن أقوالهم: قول أبي العلاء:
تعَب كلها الحياة فما أعجب ... إلا من راغب في ازدياد
فقد أفاد التقديم قصر الحياة على التعب قصرًا ادعائيًّا، أي: أن ما فيها من فترات الراحة والأنس والمسرة لا اعتداد به، ومن ذلك قول الآخر:
رضينا قسمة الجبار فينا ... لنا علم وللأعداء مال
وقول الآخر:
وليس بمغنٍ في المودة شافع ... إذا لم يكن بين الضلوع شفيع
وقول آخر:
إذا نطق السفيه فلا تجبه ... فخير من إجابته السكوت
ولا يخفى عليك معرفة موطن التقديم، والمقصور والمقصور عليه في هذه الأبيات، وأن الأصل في كل ما ذكرنا من أمثلة الحياة كلها تعب إلى آخر ذلك.