هذا؛ والمتكلم يحتاج في استخدامه لهذا المجاز أن يهيئ العبارة له، فليس كل شيء كما يقول عبد القاهر يصلح لأن يُتعاطَى فيه هذا المجاز، بل تجدك في كثير من الأمر وأنت تحتاج إلى أن تهيئ الكلام وتصلحه لذلك بشيء تتوخاه في النظم، وكلما هيأ المتكلم العبارة لهذا المجاز، وجدته قد سارع أوقع في النفس وألطف وآكد وأبلغ، وانظر مثلًا إلى قول الشاعر عن الجمل:
تجوب له الظلماء عين كأنها ... أجاجة شرب غير ملأى ولا صِفر
تجده قد أسند تجوب إلى العين، والأصل يجوب الجمل بعينه الظلماء، ولكنه عدل إلى المجاز فأسند الفعل إلى آلته، ثم هيأ البيت وتوخى من النظم ما يجعل المجاز ألفظَ وأوقع في النفس؛ إذ تراه نكر العين ليتسنى له وصفها بالجملة الواقعة بعدها، ولو قال: تجوب له الظلماء عينه ما تمكن من وصفها بتلك الجملة، وعندما نكر العين وقطعها عن الإضافة إلى الجمل وصلها به بقوله: له، فبدون الضمير في له يصير الكلام لا علاقة له بالجمل، هكذا ذكره عبد القاهر في (الدلائل).
وراجع ذلك في هذا المصدر لترى هذا بنفسك.
وخذ مثلًا قول الخنساء -وقد سبق أن ذكرناه-:
ترتع ما غفلت حتى إذا ادكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار
فإنك تجد أن أسلوب القصر قد هيأ المجاز العقلي أحسن تهيؤ، حيث قصرت الناقة على الإقبال والإدبار، وقارِن بين هي إقبال وإدبار وقولها: وإنما هي إقبال وإدبار؛ فستضح لك قوة المبالغة المنبعثة من أسلوب القصر، ثم تأمل قول كثير -وقد ذكرناه-:
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح