العيشة في الحقيقة والواقع مرضية لا راضية، ولو رجعنا بهذا الإسناد إلى حقيقته لقلنا: رضي فلان عيشته، ومن هذا القبيل قوله تعالى: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} (الحاقة: 21) حيث أَسند ما في معنى الفعل وهو {رَاضِيَةٍ} إلى مفعوله وهو الضمير العائد إلى عيشة، وأصل هذا الإسناد عيشة راض صاحبها، فالإسناد في الآية الكريمة مجازي وهو يفيد المبالغة في الرضا؛ فكأن الرضا قد تجاوز صاحب العيشة إلى العيشة نفس ها، فالعيشة ليست مرضية فقط وإنما هي راضية أيضًا، وإذا علِمنا أن المقصود بالعيشة هنا النعيم الذي يحظَى به أهل الجنة ويتقلبون في أعطافه ويسعدون بجواره، فإن وصفها بالرضا يعني أنها دائمة لا تنقطع، ما دام ثواب الرضا يشمل الطرفين، وتمام النعمة في دوامها وبقائها.
ومن هذا الن ح وأيضًا قوله تعالى: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} (الطارق: 6) فقد أسند: {دَافِقٍ} إلى ضمير الماء؛ أي: أسنده إلى المفعول؛ لأن الماء مدفوق لا دافق فهو مجاز عقلي، وأصل الإسناد ماء دافق صاحبه، ولكن المجاز أبلغ من الحقيقة هنا لما فيه من المبالغة في الدفق، وكأن الماء لسرعة اندفاعه دافق يدفع بعضه بعضًا؛ فالعلاقة هنا هي المفعولية. ومنه قول الشاعر:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
فقد أسند اسم الفاعل الطاعم الكاسي إلى ضمير المفعول، والشاعر يريد أن يقول له: إنك لست أهلًا لنيل المعالي فلا تجهد نفسك في طلبها، فإن منزلتك دون ذلك، فأنت المطعوم المكسو، فوضع اسم الفاعل موضع اسم المفعول على سبيل التجوز في الإسناد، والدليل على ذلك أن الشاعر يهجو المخاطب ولا يعقل أن يقول له: لا ترحل لطلب المكارم، ثم يقول له: إنك تطعم غيره وتكسوه، وإنما أراد أن يقول لمخاطبه اقعد عالة على غيرك مطعومًا مكسوًّا.