ويقتضي وضع بعض صفات المشبّه به أو خصائصه أو لوازمه تصرفات في التعبير ملائمات لها، وهذه لا تغيّر من جوهر التشبيه المكنّي شيئاً.

أقول:

إنّ هذا التعبير وأمثاله فيما رأى هو من قبيل التشبيه البليغ المكني، ونقول فيه اختصاراً: "تشبيه مكني" كما قال البيانيّون في نظيره من الاستعارة: "استعارة مكنيّة".

ولم يذكر البيانيّون هذا القسم من أقسام التشبيه، لكن يُفْهم من بعض كلام الخطيب القزويني، إذْ ذهبَ إلى غير ما ذهب إليه السَّكاكي في الاستعارة التخييليّة، كما سيأتي بمبحث الاستعارة إن شاء الله.

وهنا ألاحظ أنّ أمثلة كثيرة اختلطت على الباحثين والكاتبين في علم البيان، هل يجعلونها من التشبيه أمْ من الاستعارة التي يسمّونها استعارة تخييليّة؟.

وكان ذلك منهم بسبب عدم فَرْزِ قسم التشبيه المكنّي عن التشبيه البليغ الذي يُذْكَرُ فيه المشبَّهُ باللفظ الدّالّ عليه مباشرة، ويُغْضُونَ النظر عن الضابط الذي ذكروه للفرق بين الاستعارة والتشبيه، وهذا الفرق يقضي بأن لا يجتمع في الكلام المشبَّه والمشبَّه به على وجه يُنْبِئ عن التشبيه، في وجه من الوجوه السّتّة الآتي شرحُها مع أمثلتها، لدى الكلام على الاستعارة، وهي:

"أن لا يكون المشبّه به خبراً عن المشبَّه - وأن لا يكون المشبّه به حالاً للمشبَّه - ولا صِفَةً له - ولا مضافاً إلى المشبَّه - ولا مَصْدراً مُبَيِّناً لنوعه - وأن لا يكون المشبَّهُ مبيِّناً في الكلام للمشبَّه به".

فالعبارات التي يكون فيها شيءٌ من هذه الوجوه السّتّة تكون من التشبيه لا من الاستعارة، بحسب ما قرَّروا، وهو حقٌّ.

غير أنّ كثيراً من الأمثلة الّتي يوردها بعض البيانيين في الاستعارة، ويعتبرونها من الاستعارة القائمة على التخييل، هي من التشبيه المكِنّي لدى التحليل.

أمثلة:

المثال الأول: "علي بن أبي طالب فارس شجاعٌ ذو بأْسٍ في الحرب يفترس أقرانه" في هذا المثال تشبيه "علي بن أبي طالب" بالأسد على طريقة التشبيه البليغ، لكن لم يُذكر لفظ المشبّه به في العبارة وهو لفظ "الأسد" وإنما ذكر بعض صفاته بأسلوب التشبيه المكنيّ.

ولا غرو أنّ هذا التشبيه المكنّي أدقُّ وأبلغ من التشبيه البليغ، لابتعاده عن ذكر لفظ المشبّه به، وليس هو من الاستعارة لاجتماع المشبَّهِ وصفةٍ من صفات المشبَّهِ به، على وجْهٍ يُنْبِئُ عن التشبيه.

المثال الثاني: قول الكُمَيْت:

خَفَضْتُ لَهُمْ مِنّي جَنَاحَيْ مَوَدةٍ ... إِلَى كَنَفٍ عِطْفَاهُ أَهْلٌ ومَرْحَبُ

الكنف: جانب كلّ شيء، والظِّلّ الذي يُسْتظلُّ به، ومن الإِنسان حِضْناه عن يمينه وشماله.

الْعِطْف: من الإِنسان جانبه من لَدُنْ رأسِه إلى وَرِكه.

شبه الكُمَيْتُ المودّة بالطائر، على طريقة التشبيه البليغ الذي أضيف فيه المشبه به إلى المشبَّه "طائر المودّة" أي: المودّة التي كالطائر، ثم حذف المشبَّهَ به، ورمز إليه بأخصّ صفاته الّتي تنخفض حناناً ومودّة، وهما الجناحان، فأضاف الجناحَيْن للمودّة، فقال: "جناحَيْ مودّة".

وناسب هذا التشبيه استعمال فعل الخفض، فقال: "خَفَضْتُ" وجعل جناحي مودّته ينخفضان إلى كَنَفه، أي: إلى حضنيه عن يمينه وشماله.

وبما أنّ كَنَفَه يشتمل على عِطْفَيْه فقد رأى أن يجعل أحد هذين العِطْفَيْن أهلاً، وأن يَجْعَلَ الآخر مرحباً، على طريقة التشبيه البليغ، أي: فهو لكثرة حسن استقباله لضيوفه كان أحَدُ عِطْفَيْه كالأهل الذينَ يستقبلون بغاية الودّ، وكان العطِفُ الآخر منه كالعبارات التي تُقَدَّم في الترحيب، أو كالمكان الرَّحْبِ الذي يَتَّسع لمن ينزل فيه، ولكن حذَف أداة التشبيه ليكون تشبيهاً بليغاً، بمعنى أنّ المشبَّه هو عَيْنُ المشبَّهِ به ادّعاءً.

المثال الثالث: قول الله عزّ وجلّ في سورة (الرعد/ 13 مصحف/ 96 نزول) :

{والذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض أولائك لَهُمُ اللعنة وَلَهُمْ سواء الدار} [الآية: 25] .

قوله تعالى: {يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ} .

جاء في هذه العبارة تشبيه الْعَهْدِ بالْحَبْلِ الْمُبْرَمِ الّذِي أُحْكِمَتْ تقويته بالإِبْرام، وهو إيثاقه، أي: إحكام تقويته.

ثُمَّ حُذِفَ المشبَّه به، ورُمِزَ إلَيْه ببَعْضِ صِفَاتِهِ، فجاء النقض الذي يشبه إبطال الْعَهْد في عبارة "يَنْقُضُونَ" وجاء الإِيثاق الذي يشبه إعطاء العهد للالتزام به، في عبارة "من بَعْد ميثاقه".

وأصل الكلام: يُبْطِلُون العهد إبطالاً يشبه نقض الحبل الْمُبْرمِ الذي أُحْكِم إيثاقاً، الذي يُشْبِهُ إعطاء العهد الذي عاهدوا عليه مُوَثِّقين له بِالأيمان بالله.

المثال الرابع: قول الله عزّ وجلّ في سورة (الإِسراء/ 17 مصحف/ 50 نزول) بشأن الإِحسان إلى الوالدين:

{واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الآية: 24] .

في هذا المثال تشبيه التَّذَلُّلِ لِلْوَالِدَيْنِ بتذّلل الطائر حين يخفض جناحَيْهِ أو جناحَه مُنْكَسِراً لفراخِه أو لزوجه أو لغيرهما، ولكِنْ أُضْمِر التشبيه، فلم يُذْكَرْ لفظُ المشبّه به، وإنّما كُنِّيَ عَنْه بشيءٍ من صفاته وهو الجناح، وأضيف هذا المكنَّى به إلى المشبَّه.

وهذا على ما يظهر هو من التشبيه البليغ المكنّى فيه عن المشبَّه به ببعض صفاته.

ومعنى الجملة على هذا التحليل: ليكُنْ ذُلُّكَ لوالِدَيكَ كطائرٍ يخفض جناحه تذلُّلاً من الرَّحْمَة، فَحُذِفَتْ أوّلاً أداة التشبيه فصار تشبيها بليغاً، ثمّ حُذِفَ لفظ المشبّه به، ورُمِزَ إليه بشيء من صفاته وهو الجناحُ الذي يُسْتَعْمَلُ خفضُه للدلالة به على التذلُّل والرَّحْمَة، فصار تشبيهاً مَكْنِيّاً.

وناسَبَ هذا التشبيهَ استعمالُ فِعل "الْخَفْض" في عبارة {واخْفِضْ لَهُما} وظَاهرٌ أن هذا الْخَفْضَ يَشْتَركُ فيه المشبَّهُ والمشبَّهُ به، فالطائر يخفض جناحه، والإِنسان يخفض جانبه الجسدي، ويخفض جانبه النفسيّ.

الخفض في اللّغة: التواضع ولين الجانب، والميلُ إلى المنخفض المطمئنّ من الأرض، وهو ضدّ الرفع.

وجعل هذا المثال من قبيل الاستعارة المكنية مخالف للقواعد الّتي وضعها البيانيون.

***

(6)

مختارات من التشبيهات والأمثال

* أسْمَى التشبيهات والأمثال وأبْدَعُها وأتْقَنُهَا ما جاء منها في القرآن المجيد، وقد بذَلْتُ في دراستها واستخراجها ما أمْلِكُ من طاقةٍ إنسانيّة، استقصاءً وتدبُّراً وتحليلاً، ودَوَّنْتُ ذلك في كتابي "أمثال القرآن وصور من أدبه الرفيع" فأُحِيل عليه من شاء أن يستمتع وينتفع بالروائع من التشبيهات والأمثال، وبطائفة من الصّور الأدبيّة العجيبة.

* ويأتي من دونها ما جاء في تشبيهات الرسول محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد انتقيت منها طائفة مختارة، وشرحْتُها شرحاً فكريّاً وأدبيّاً، وجعلْتُها ضمن كتابي "روائع من أقوال الرسول" وأحيلُ عليه أيضاً من شاء أن يطّلع على طائفةٍ مشروحةٍ من تَشْبِيهاتِ الرسول وأمثاله.

* وأقتصر هنا على عَرْض طائفة مختارة ممّا أبدعه المبدعون من الناس، من دون المصطَفَيْن الأخيار من الأنبياء والمرسلين:

(1) الشاعر الوصّاف "أبو عُبَادة الوليد بن عُبَيْد" الطائي الملقّب "بالبحتُرِي" نسبة إلى "بُحْتُر" أحد أجداده - وهو مولود في "مَنْبِج" قُرْب "حِمْص" من بلاد الشام سنة "205هـ" والمتوفّى سنة "284هـ" وصَفَ بِرْكَة الخليفة "المتوكّل على الله" من قصيدة يمدحه بها فقال:

يَا مَنْ رأَىْ الْبِرْكَةَ الْحَسْنَاءَ رُؤيَتُهَا ... وَالآنِسَاتِ إِذَا لاَحَتْ مَغَانِيها

بِحَسْبِهَا أَنَّهَا فِي فَضْلِ رُتْبَتِهَا ... تُعَدُّ وَاحِدَةً والْبَحْرُ ثَانيِها

مَا بَالُ دِجْلَةَ كَالْغَيْرَى تُنَافِسُهَا ... فِي الْحُسْنِ طَوْراً وَأَطْواراً تُبَاهِيها

أَمَا رَأَتْ كَالِئَ الإِسْلاَمِ يَكْلَؤُهَا ... مِنْ أَنْ تُعَابَ وَبَانِي الْمَجْدِ يَبْنِيها

كَأَنَّ جنَّ سُلَيْمَانَ الَّذِينَ وَلُوا ... إِبْدَاعَها فَأَدَقُّوا فِي مَعَانِيها

فَلَوْ تَمُرُّ بِهَا بِلْقِيسُ عَنْ عَرَضٍ ... قَالَتْ هِيَ الصَّرْحُ تَمْثِيلاً وتَشْبِيهَا

تَنْصَبُّ فِيهَا وُفُودُ الْمَاءِ مُعْجِلَةً ... كَالْخَيْلِ خَارِجَةً مِنْ حَبْلِ مُجْرِيها

كَأَنَّمَا الْفِضَّةُ الْبَيْضَاءُ سَائِلَةً ... مِنَ السَّبَائِكِ تَجْرِي فِي مَجَارِيها

إذَا عَلَتْهَا الصَّبَا أَبْدَتْ لَهَا حُبُكاً ... مِثْلَ الْجَوَاشِنِ مَصْقُولاً حَوَاشِيها

فَحَاجِبُ الشَّمْسِ أَحْيَاناً يُضَاحِكُهَا ... وَرَيِّقُ الْغَيْثِ أَحْيَاناً يُبَاكِيها

إذَا النُّجُومُ تَرَاءَتْ في جَوَانِبَها ... لَيْلاً حَسِبْتَ سَمَاءً رُكِّبَتْ فِيهَا

لاَ يَبْلُغُ السَّمَكُ الْمَحْصُورُ غايَتَهَا ... لِبُعْدِ مَا بَيْنَ قَاصِيهَا وَدَانِيها

يَعُمْنَ فِيَها بأَوْسَاطٍ مُجَنَّحَةٍ ... كَالطَّيْرِ تَنْقَضّ فِي جَوٍّ خَوَافِيها

لَهُنَّ صَحْنٌ رَحِيبٌ فِي أَسَافِلِهَا ... إِذَا انْحطَطْنَ وبَهْوٌ في أَعَالِيهَا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015