إنّ صدر هذا البيت يشتمل على معنى مبذول، يتداوله النّاس، وتستعمله الخاصّة والعامّة.
لكن لما جاء عجز البيت: "وِجْدَانُنَا كُلَّ شَيُءٍ بَعْدُهُمْ عَدَمُ". ارتقى الكلام ارتقاءً عالياً، إذ جعل حيازته لكل شيء بعد مفارقة ممدوحه عدماً أو بمثابة العدم، وهذا معنى دقيق قلّما يخطر على البال، فَنُدْرَةُ خُطُورِه على البال لدى معظم النّاس أَغْلَى قيمته الأدبيّة.
ونظير ذلك قوله في القصيدة نفسها:
إِنْ كَانَ سَرّكُمُو مَا قَالَ حَاسِدُنَا ... فَمَا لِجُرْحِ إِذَا أَرْضَاكُمُو أَلَمُ
فالفكرة التي تتبادر إلى كلّ الأذهان، أن يقول المحبّ لمحبوبه: إنني أصبر على ألم الجرح الذي يَسُرُّك، لأنها هي التي تعبرّ عن واقع حال معظم المحبين الصادقين في حبهم، لكن فكرة انعدام وجود الأَلَمِ كُلِّيّاً، بتأثير سرور المحبّ بما يُسَرُّ به محبوبة فكرةُ تَقِلُّ خطوراً على البال، لأَنّها نادرة الوجود في الواقع، فاكتسب النّص بذلك إضافة جماليّة أَغْلَى قيمته الأدبيّة.
***
سابع عشر- تصوير الواقع بالصورة المتخيّلة منه لدى مشاهدته:
ومن عناصر الجمال الأدبي في الكلام تَصْوِيرُ الواقع بالصورة المتخيَّلة منه لدى مشاهدته، ولو في بعض الأحيان، أو في بعض اللّمحات.
ففي هذا التصوير عنصر المبالغة الخياليّة في الدلالة على الحقيقة.
وفيه أيضاً التأثير النفسيّ على السامع أو القارىء، إذْ يُرْسَمُ له في التعبير الكلامي مِثْلُ ما أحسّ هو به، دون أنْ يُعبِّر عنه، أو دون أن يستطيع التعبير عنه، أو جاءه أمر طريف حلوٌ كان غافلاً عنه، فلمّا نُبِّهَ عليه أعجبه فتمثّل له في الخيال، ورأى أنّه كان ينبغي له أن يتخيّله.