هذا، وهناك أنواع أخرى للجناس، منها ما أطلقوا عليه جناس التصحيف، وضابطه: أن يتماثل طرفاه خطًّا ويختلفَا نطقًا ونقطًا، ومثلوا له من القرآن بقول الله تعالى حكايةً عن إبراهيم -عليه السلام: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} (الشعراء: 79، 80) فالجناس بين {وَيَسْقِينِ} و {يَشْفِينِ} والطرفان فيه متماثلان في الخط، فلو أزلتَ النقط التي على حروفهما حدث بينهما تماثل تام، والاختلاف في النقط تابعاه اختلاف في النطق كما ترى. ومن ذلك: قوله -صلى الله عليه وسلم- لعلي بن أبي طالب: ((قَصِّر ثوبك، فإنه أتقى وأنقَى وأبقى)) ومنه دعاؤه -صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إني أسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى)). وكذا ما يسمى بالجناس اللفظي أو جناس الاشتقاق، فهذه الصورة وإن اشتبهت بالجناس لفظًا فقد فارقته معنًى؛ لعدم التفاوت في معانيها، مثال ذلك: قول الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} (الروم: 43) فأنت تلحظ اتفاقًا بين: {أَقِمْ} و {الْقَيِّمِ} وهذا الاتفاق جعل هذه السورةَ كأنها جناس، ولكن لما كان المعنى واحدًا للكلمتين زال معنى الجناس عنهما.
بقي أن نتحدث بإيجاز عن بلاغة الجناس؛ وذلك بعد أن وقفنا على مفهومه وعرفنا أنواعه المتعددة نقول:
إن الجناس لا يُقبل ولا يعد حسنًا إلا إذا طلبه المعنى واستدعاه، وجاء عفوَ الخاطر، صادرًا عن طبع لا عن تكلف وتصنع. والجناس شأنه شأن فنون البديع الأخرى لا يُحمد فيه الإسراف، ولا يستحسن فيه الإكثار، ولذلك ذُم الاستكثار منه والولوع به، وذلك أن المعاني لا تدين في كل موضع لِمَا يجذبها التجنيس