ومنذ معرفته في ذلك العصر -وحتى الآن- ودلالته لم تتغير ولم تتبدل، وعلى الرغم من أن بعض العلماء قد أطلقوا على هذا الأسلوب في القرآن الكريم اسمَ الفواصل بدلًا من السجع، إلا أن دلالته ظلت باقيةً حتى الآن، وكان للسجع منزلة سنية بين العرب في الجاهلية، فلقد كثر في كلامهم، كان يصدر منهم عن طَبْع سليم، وسليقة قوية، وفِطرة واضحة. من ذلك قول أوس بن حارثةَ موصيًا ابنَه: "يا مالك المنية ولا الدنية، والعتاب قبل العقاب، والتجلد لا التبلد، واعلم أن القبر خيرٌ من الفقر، وشر شارب المُشَتَف، وأقبح طاعم المقتف، وذهاب البصر خير من كثير النظر".

ومنه قول قس بن ساعدة الأيادي في سوق عكاظ، وهو مشهور: "أيها الناس، اسمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر". ومنه أيضًا قول عبد المطلب بن هاشم يهنئ سيفَ بن ذي يزن باسترداد مُلكه من الحبشة: "إن الله تعالى أيها الملك أحلك محلًا رفيعًا صعبًا منيعًا، باذخًا -يعني: عاليًا- شامخًا، وأنبتك منبتًا طابت أرومته، وعزت جرثومته -جرثومة والأرومة هي الأصل- وثبت أصله وبسق فرعه في أكرم معدن وأطيب موطن". وإلى جانب هذا السجع الفطري وُجِدَ نوع آخر من السجع المتكلف، وهو سجع الكهان، كقول سُطيح بن مازن وهو من كهان العرب، في تعبير رؤيا ربيعة بن نصر اللخمي أحد ملوك اليمن: "أحلف بما بين الحَرتين من حنش، ليهبطن أرضَكم الحبش، وليمكنن ما بين أبينَ إلى جرش". وقول شق أنمار من كهان العرب في تعبير تلك الرؤيا: "أحلف بما بين الحرتين من إنسان، لينزلن أرضكم السودان، وليغلبن على كل طَفلة البَنان، وليملكن إلى ما بين أبينَ ونجران".

طور بواسطة نورين ميديا © 2015