وهذا يفتح لنا مجالًا واسعًا يمكن أن تدخل منه صور من تأكيد المدح بما يشبه الذم ليست على الطريقة التي مضت، نذكر منها هنا ما رواه اليزيدي في أماليه عن ابن الأعرابي، قال: "لما مات عامر بن الطفيل جعل حول قبره حِمًى ميلًا في ميل، لا يرعَى، ولا يدفن فيه أحد، فقدم ابن عمه جبار بن سلمى بن مالك، فقال: أين دفنتم أبا علي؟ فأروه قبره، فقال: لقد ضيقتم على أبي علي، إن أبا علي بان بخِصال كان لا يضل حتى يضل النجم، ولا يعطش حتى يعطش الجمل، ولا يبخل حتى يبخل البحر، ولا يجبن حتى يجبن السيل".
فابن عم عامر بن الطفيل نفَى عنه الضلالَ والعطشَ والبخلَ والجبنَ، وكان يأتي بـ"حتى" بعد كل نفي، فتتوهم أن ما نفاه عنه له غاية ينتهي عندها، وأنه لا يستمر أبدًا، وأنها صفات معلقة وليست مطلقة، صفات مفارقة وليست بلازمة، صفات لها أمد تنتهي عنده لا تتعداه، فهذا هو ما توحي به "حتى". فإذا جاء بعدها ما هو أصل فيما وُصِفَ به صاحبُه، رجعتَ إلى ما بدأك به من إثبات ما أثبت بطريقة مطلقة؛ لأنه علق الأمر على ما لا يكون، وإذا كان من المحال أن يضل النجم وأن يبخل البحر وأن يجبن السيل عن الاندفاع، فهل من المحال أن يعطش الجمل حتى يكون من باب التعليق بالمحال؟ إن التعليق هنا ليس بمحال وإنما بما يمثل الغاية العظمى عند العرب في تحمل العطش، فَوَصْف صاحبه بالجمل في هذا الباب يعني أنه يصل إلى أقصى الغايات في تحمل العطش، وليس الهدف أنه لا يعطش أبدًا، فإن هذا لا يكون، وهذا هو وجه التعليق في هذه الصور. وبهذا تدخل عندنا أداة جديدة من أدوات توكيد المدح بما يشبه الذم وهي "حتى" الغائية، وما جرى مجراها، وبهذا تتسع دائرة هذا الباب.
ونقف عند آية مريم، وهي قوله تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا}، وعند آية الواقعة: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} (الواقعة: 25، 26)