العيب الذي سيجيء، وتظل في حالة شوق إليه ولهفة عليه، حتى إذا ما انتهى من إنشاد الفقرة الماضية ووصل إلى آخرها، أدركتَ أن هذا العيب المستثنى بـ"غير" من جنس العيب المنفي سابقًا، ففلول السيف في الأصل عيب، وإذا كانت سيوفهم بهن فلول فإن هذا يعيبهم، وهنا يستقر ذهنك وينتهي ترقبك ويهدأ بالك، ولكن قبل أن تطمئن إلى ذلك يأتي قوله: "من قراع الكتائب"، فيتبين لك أن ما توهمته عيبًا، وأوحَى إليك الشاعر به وعمد إلى تقريره في نفسك على أنه من صفة العيب المستثناة، لم يكن كذلك، وإنما هو تثبيت لنفي جنس العيب وترسيخ له.
فأن يكون فلول السيوف بسبب الحرب والنزال ومقارعة الأعداء فهذا إثبات للشجاعة بالدليل الحسي المشاهد، فلا تفل السيوف إلا من شدة المنازلة وقوة المقارعة. فانظر كيف تلاعب الشاعر بتصوراتك وكيف قاد وهمك وذهنك بين المدح بنفي العيب نفيًا مطلقًا فأوهمك أن هناك عيبًا لاحقًا به، فالارتداد بك إلى ما بدأك به، وما كنت تتقلب هذا التقلب وتنتقل هذه الانتقالات، لو أن الشاعر اكتفَى بالاستثناء وحده ثم فاجأك بالصفة المستثناة التي يتبين لك سريعًا أنها من قبيل المدح الصراح. إن فلول السيف عيب حقيقي وإثباتها للممدوحين إثبات حقيقي، ولكن الذي قلب ما أوحت به هذه الصورة رأسًا على عقب، هو أن هذا لم يكن لإهمالهم السيوف أو عدم انتقائها عند الشراء بحيث يختارون أردأها، ولكن هذا كان من الحرب ومنازلة الأعداء، فانتفت حينئذ صفة العيب وثبت في الوقت نفسه ضدها، وهو أن فلول السيوف على هذه الصورة من المفاخر. ومن هنا تجيء الخلابة في هذا الباب، ويأتي توجيه الذهن إلى وجهات متناقضة في لحظات متتابعة متلاحقة. وانظر أيضًا إلى شاهد ابن المعتز في الإثبات