يغني عنه ماله الذي بخل به واكتنزه واستغنى به عما عند الله إذا تردى في الهاوية وهلك، ثم يأتي قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} (الليل: 12) فرقًا واضحًا بين هذه المسالك المتعددة؛ لأن الهدى هو الذي يضع الحدود الفاصلة بين المسالك المتناقضة والمساعي المتقابلة، {وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى} (الليل: 13)، وليس لأحد سواه؛ إنه يهيمن على هذه الأمور المتقابلة هيمنةً كاملةً، فمن كانت له هذه الهيمنة كلها فإنه هو وحده الذي يقرر مصير هذه الفرق المتناقضة المتقابلة، ولا يملك أحد سواه تقرير هذا المصير: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى * وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} (الليل: 14 - 21).
ولعل التعبير هذا بالأشقى والأتقى وليس بالتقي والشقي؛ ليكون التقابل -والله أعلم- في قمته والتناقض في غايته، تمامًا كما افتتحت السورة بالتناقض التام والتقابل الكامل، أرأيتَ كيف يكون التقابل منسجمًا مع جو السورة العام؟!
وهذا الذي مضى كله ترى فيه أن عدد الأضداد في المتقابلات متساوٍ، فاثنان باثنين أو ثلاثة بثلاثة، وهكذا حتى يصل التقابل إلى ستة بستة هذا هو المعروف المشهور في المقابلة.
لكن ابن رشيق يرى أنه قد يقابل اثنان بثلاثة فذكر في ذلك قول أبي نواس:
أرى الفضل للدنيا وللدين جامعًا ... كما السهم فيه الفوق والريش والنصل
فزاد في المقابلة قسمًا؛ لأنه قابل اثنين بثلاثة وكذلك قول القيس بن الأسلت:
الحَزمُ وَالقُوَّةُ خَيرٌ مِنَ ال ... إِدهانِ وَالفَكَّةِ -يعني: الضعف- وَالهاعِ
يعني: الجبن والخفة. فقابل الحزم بالادهان والقوة بالفكة وهو الضعف، ويروَى الفهة وهي العين، وزاد الهاع وهو الجبن والخفة: