وعليه، فلا مناص من تدبره، وتعلمه، وفهم معانيه، ولا سبيل لتحقيق ذلك إلا بتعلم علوم البلاغة. ومن هنا فقد ذكر جُلُّ أهل العلم من المفسرين والمعنيين بعلوم القرآن أن تعلُّم علوم البلاغة هو من أهم ما ينبغي لطالب العلم الشرعي أن يوليه اهتمامه، وأذكر ممن نصُّوا على ذلك بصريح العبارة الإمام الزمخشري، وقد ذكر في كتابه (الكشاف) نقلًا عن الجاحظ في كتابه (نظم القرآن): "أن الفقيه وإن برز على الأقران في علم الفتاوى والأحكام، والواعظ وإن كان من الحسن البصري أوعظ، والنحوي وإن كان أنحى من سيبويه، واللغوي وإن علك اللغات بقوة لحييه -علك اللغات يعني: هضمها وأجادها وفهمها حق الفهم- لا يتسطى أحد لسلوك تلك الطرائق، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق، إلا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن وهما: علم المعاني وعلم البيان، وتمهل في ارتيادهما آونة، وتمهل في التنقير عنهما أزمنة، وبعثته على تتبع مظانهما همة".
هذا كلام الزمخشري، ويقول السيوطي مشيرًا في كتابه (الإتقان في علوم القرآن)، وقد جعله في ثمانين مطلبًا، يذكر في المطلب الثامن والسبعين كلام أهل العلم في العلوم التي تُشترط للمفسر أن يكون ملمًّا به، وأنها تأتي في خمسة عشر علمًا، الخامس، والسادس، والسابع منها المعاني والبيان والبديع. قال: "لأنه يُعرف بالأول منها خواص تراكيب الكلام من جهة إفادتها المعنى -هو علم البيان، وبالثاني -هو البيان- خواصها من حيث اختلافها بحسب وضوح الدلالة وخفائها، وبالثالث -هو البديع- وجوه تحسين الكلام".
يقول: "وهذه العلوم الثلاثة هي علوم البلاغة، وهي من أعظم أركان المفسر؛ لأنه لا بد له من مراعاة ما يقتضيه الإعجاز، وإنما هو يدرج بهذه العلوم".