لهم جل مالي إن تتابع لي غنًى ... وإن قلّ مالي لم أكفهم رفدًا
فقوله: تتابع لي غنًى، هو بمعنى قوله: كثر مالي، فالتطابق هنا حدث بين معنيي قل وكثر، بغض النظر عن ذكر الفاعل؛ لأنه لا يؤثر في تضاد المعاني شيئًا، وقل منصوصٌ عليها، وكثر استفيدت من قوله: تتابع لي غنًى، وهكذا يستقيم لنا الطباق الخفي بين المفردات أو بين التراكيب، أو مما بينهما على حدٍّ سواء.
إلا أن ابن الأثير يرى أن المقابلة في المعنى دون اللفظ في التراكيب وحدها؛ لأن حقيقة الأضداد اللفظية إنما هي في المفردات من الألفاظ نحو: قام وقعد، وقل وكثر، فإن القيام ضد القعود والحل ضد العقد والقليل ضد الكثير، فإذا تُرك المفرد من الألفاظ وتوصل إلى مقابلة بلفظ مركب كان ذلك مقابلة معنوية لا لفظية، بل إن أمر الطباق الخفي لا يتوقف عند المفردات وحدها أو التراكيب وحدها، أو المفردات والتراكيب معًا، بل إنه ليتجاوز هذا كله إلى الحروف والظروف، حيث نلمح فيه أيضًا طباقًا ظاهرًا أو طباقًا خفيًّا، فالتضاد بين فوق وتحت طباق واضح جلي مثلًا، وكذلك بين قدام ووراء وأمام وخلف وقبل وبعد، وهو واضح كذلك بين "من" إذا كان معناها الابتداء الزماني أو المكاني وبين "إلى" إذا كان معناها الانتهاء الزماني أو المكاني أيضًا.
وهو كذلك واضح بين اللام التي يُستفاد منها النفع استفادة واضحة وبين "على" التي يُستفاد منها الضر استفادة ظاهرة كذلك، ولكن إذا قرأتَ قول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُون} (يس: 9) لوجدتَ أن الآية الكريمة وضعت: {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} في مقابلة: {مِنْ خَلْفِهِمْ}، ولا تضاد بينهما على الحقيقة، وإنما التضاد الحقيقي بين من أمامهم ومن خلفهم، ولكن الذي آثره النظم الكريم يفيد التضاد، ويزيد على الضد الحقيقي في المعنى، ولهذا أوثر عليه، ومن هنا كان التضاد في هذا المقام خفيًّا،