هذا لا يكون حتى يكون لاستئناف هذه العلة المدعاة فائدة شريفة فيما يتصل بالممدوح، أو يكون لها تأثير في الذم، كقصد المتنبي ها هنا في أن يبالغ في وصفه بالسخاء والجود، وأن طبيعة الكرم قد غلبت عليه، ومحبته أن يصدِّق رجاء الراجينا، وأن يجنبهم الخيبة في آمالهم قد بلغت فيه هذا الحد، فلما علم أنه إذا غدا للحرب غدت الذئاب تتوقع أن يتسع عليها الرزق ويخصب لها الوقت من قتلى عِداه، كره أن يخلفها، وأن يخيب رجاءها ولا يسعفها.

وفيه نوع آخر من المدح، وهو أنه يهزم العدا ويكسرهم كسرًا لا يطمعون بعده في المعاودة، فيستغني بذلك عن قتلهم وإراقة دمائهم، وأنه ليس ممن يسرف في القتل؛ طاعةً للغيظ والحنط.

ولو تتبعنا هذا اللون من كل الأساليب لوجدنا تحته من الأسرار والنكت ما يضع يديك على أثر هذا اللون في قوة الأساليب وبلاغتها.

ولو نظرنا إلى أساليب المشاكلة نجد تحتها أغراضًا ومقاصد لا تؤدى بدونها، كالمثال المشهور في المشاكلة قول الأنطاكي:

قالوا اقترح شيئًا نجد لك طبخه ... قلت: اطبخوا لي جبة وقميصا

ذكر الشاعر خياطة الجبة بلفظ الطبخ؛ لوقوعه في صحبة الطبخ الحقيقي، وهذا هو معنى المشاكلة عند البلاغيين. وإذا نظرنا في ملابسات هذا القول -وهو أمر لا يصح إغفاله؛ لأنه يحدد المقام الذي قيل فيه هذا القول- نجد أن الشاعر كان له إخوان أربعة ينادمهم أيام كافور الإخشيدي، فجاءه رسولهم في يوم قارس البرد وليست له كسوة تقيه شره، فقال له: إخوانك يقرئونك السلام، ويقولون لك: قد اصطبحنا اليوم وذبحنا شاة سمينة، فاشتهى ما نطبخ لك منها! فكتب إليهم:

إخواننا قصدوا الصبوح بسُحرة ... فأتى رسولهم إلي خصوصا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015