ومما يروَى من بديع التعريض: أن امرأة وقفت على قيس بن عبادة فقالت: أشكو إليك قلة الفأر في بيتي فقال: ما أحسن ما ورت عن حاجتها، املئوا بيتها خبزًا وسمنًا ولحمًا. ومثله ما روي: أن عجوزًا تعرضت لسليمان بن عبد الملك فقالت له: يا أمير المؤمنين، مشت جرذان بيتي على العصي -والجرذان إنما هي ذكور الفئران- فقال لها: ألطفت في السؤال لا جرم لأردنها تثب وثب الفهود. وملأ بيتها حبًّا. فقد فهم قيس بن عبادة وسليمان بن عبد الملك ما تريد كلتا المرأتين لا من اللفظ، ولكن من حالهما وطريقة إخبارهما، وكونهما المقصودين وقدرتهما على إغاثة الملهوف وذلك هو السياق، فلو أن هذا القول قد صدَرَ من غير محتاج أو كان المخاطب بها ليس أهلًا لقضاء الحاجات، لكانت هذه الأقوال من قبيل الحقيقة وليس من قبيل التعريض.
وأجمل مواقع إنما يكون في التعريض كقوله تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} (فاطر: 18) فالمراد التعريض بمن لا يخشون الله، والإشارة إلى أن إنذار هؤلاء لا يجدي فإنذارهم مثل عدمه. ومنه التعريض بخِطبة المرأة كأن يقول الرجل مثلًا: والله إنك لجميلة، ولعل الله أن يرزقك بعلًا صالحًا، وإني لفي حاجة إلى امرأة صالحة. وقد جعل الله التعريض بخطبة النساء جائزًا في عدتها دون التصريح، حيث قال -جل وعلا-: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} (البقرة: 235).
وعلى ما سبق ذكره آنفًا، فقد يجتمع التعريض والكناية التعبير الواحد وتسمى الكناية عندئذ بالكناية التعريضية أو العرضية. من ذلك قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده))، فقد أفاد الحديث الشريف حَصْرَ الإسلام فيمن سلم المسلمون من أذاه، وهذا يستلزم نفي الإسلام عن كل مَن