بالاستفهام عن استطاعة الرب لإنزال المائدة، فلما قال لهم عيسى: {اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} قالوا: {نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} (المائدة: 113) فعرضوا بذلك كله وقربوه من التصريح ولم يصرحوا فتحقق عند عيسى -عليه السلام- مرادهم، فقال: {اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ} (المائدة: 114).
فدعا باسمه العظيم الجامع وأردفه بقوله: {رَبَّنَا} لقولهم: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} وعمم الرب؛ إذ لا يستطيع ذلك إلا الله، فسأل الله المائدة وأن تكون عيدًا، ففي ضمن هذا تصديقهم له وهو من التعريض البديع، وسأل أن تكون آية وذلك بما لا يصح أن يكون إلا للأنبياء. ثم قال: {وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ} تعريضًا بطلب ما سألوه من الأكل منها؛ لأنه من الجائز أن كان أنزل عليهم مائدة وحظََر عليهم الأكلَ منها.
ويدخل في باب التعريض قول الله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} (المؤمنون: 115) فالاستفهام هنا ورد على سبيل الإنكار، لكنه تعريض بالكفار في إنكار الرجعة والمعاد الأخروي، وليس ذلك من جهة اللفظ وإنما من جهة القرينة، أن هذا قوله تعالى حكاية عن المنافقين في غزوة تبوك: {وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} (التوبة: 81) فازدياد حر جهنم وكونه أشد من حر الدنيا معلوم لدى المخاطبين بالقرآن، ولا معنى لذكره والتنبه عليه، لكن الغرض الحقيقي من هذا الكلام، هو التعريض بهؤلاء المتخلفين عن القتال المعتذرين بشدة الحر، بأنهم سيردون جهنم ويردون حرها الذي لا يوصف. ومن هذا قوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (الرعد: 19) هو تعريض كذلك بالكفار الذين لم يتذكروا وأعرضوا عن الدعوة.