كثر في القرآن هذا المجاز المسمى بالمجاز المرسل المبني على علاقة المسببية بصورة أوسع من غيرها، كما في قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} (غافر: 13) قد عبر عن المطر بالرزق، فأشار إلى قوة السببية بين المطر والرزق، وأهمية المطر وأنه مصدر الحياة، وفيه أن الرزق ينزل بقدر الله وفعله سبحانه، فليمضِ المسلم إذن على طريقة الخير التي رسمها له القرآن، وهو موقن أن الرزق مصدره السماء، فلا تتبدد طاقاته في الإلحاح وراء المطامع، وإنما تتركز هذه الطاقات في العمل الصالح، أعني: الذي تصلح به حياة الجماعة المسلمة.
وتجد القرآن يبرز هذه الناحية في كثير من عباراته كما يحتويها في خفاء ودقة في كثير من صياغاته وأحوال تراكيبه؛ ليعمق هذا المعنى في قلب المسلم ويطرد من أفقه مشاعر الأثرة والأنانية.
ومما يذكره البلاغيون في هذه العلاقة -علاقة المسببية- قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} (النساء: 10) والذين يأكلون أموال اليتامى لا يأكلون نارًا على الحقيقة، وإنما يأكلون أموال اليتامى، ولما كان ذلك مؤديًا إلى النار حتمًا وسببًا في عذابها قطعًا عبر عنه به. وفيه مع إبراز هذه السببية وتقويتها تفظيع وتنفير تراه في هذه الصورة: {يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} فالقوم يقذفون النار في أفواههم، فتندلع في بطونهم، ولو قال سبحانه: إنما يأكلون حرامًا، لكان شيئًا آخرَ، مع أن المآل إليه، كما أنه لو قال: إنما يأكلون نارًا، لذهب من الصورة جزء كبير فيه فظاعة وشناعة؛ لأن كلمة البطون مع أنها مفهومة ضرورة من كلمة الأكل، إلا أن في النص عليها مزيد تشخيص وتوضيح. وتجد في كلمة: {إِنَّمَا} ذات الدلالة المعروفة همسًا خافتًا، يقول: إن هذه قضية مسلَّمة وبديهة ظاهرة، لا ينبغي أن يحتفل في عرضها، ولا أن تؤكد في سياقها.
بمثل هذا يكون التدبر، وتجنَى الفائدة والثمرة من وراء مدارسة فنون البلاغة.
أقول قولي هذا، وأستودعكم الله دينكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.