الحي؛ تشخيصًا لها وتجسيمًا، وعلى القول بأن ما من شيء إلا يسبح بحمده ليس ما يمنع في هاتين الآيتين -وما جاء على شاكلتهما- أن يُحملَا على الحقيقة.

أيضًا يقول المولى -سبحانه وتعالى- فيما يدل على أن مجاز الاستعارة فيه ما فيه من التشخيص -تشخيص المعاني وتجسيدها- قوله: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} (الحجر: 22) فقد خلعت الآية على الرياح صفات الحيوانية التي من صفاتها التلقيح والتوالد.

ومنه أيضًا قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} (يونس: 108) وقوله: {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} (الأحزاب: 19) فالحق والخوف من الأمور المعنوية التي لا يتصور منها إتيان أو مجيء، لكنها شُبهت بمن يكون منه الإتيان والحركة؛ تجسيمًا للمعنويات وتشخيصًا لها. ومعلوم أن جوهر الشعر كله بكل لغة هو التأثير الشديد في النفوس، فالشعر لا يلجأ إلى المنطق ولا إلى الحجة كما في النثر ولا يخاطب العقل بل وجهته الروح والقلب والعاطفة، وليكون الشعر مؤثرًا في النفوس وأعلق بالقلوب وأطرب للأفئدة، فيجعل الشاعر طريقة التصور منهجًا، ويتخذ من التمثيل والتصوير سبيلًا لصوغ شعره.

ويروَى أن بشارًا سمع أبا العتاهية ينشد الخليفة المهدي قصيدته التي يقول فيها:

أتته الخلافة منقادة ... إليه تجرجر أذيالها

فلم تك تصلح إلا له ... ولم يك يصلح إلا لها

ولو رامها أحد غيرُه ... لزلزلت الأرض زلزالها

هنا عندما سمع بشار هذه الأبيات وكان أعمى، قال لصاحبه: انظر ويحك هل طار الخليفة عن فرشه، وكأن عجب بشار لما في تصوير أبي العتاهية وإبداعه في التمثيل وبلوغه الغاية في التخييل، مما جعل التأثير في السامع قويًّا وشديدًا.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015