تجد أنه أيضًا كناية عن صفة، لكنها كناية بعيدة؛ لأنه انتقل من جبن الكلب إلى الكرم، بوسائط فجبن الكلب من النباح يستلزم استمرار تأديبه، وهذا يستلزم دوام مشاهدته، وهذا يستلزم أن صاحبه أضحى مقصد الداني والقاصي، هذا كله دالٌّ على جوده وكرمه، مهزول الفصيل الفصيل هو ولد الناقة، وهزاله بحرمانه من لبنها؛ لنحرها للضيوف أو إطعامهم لبنها، إيثار الضيوف بها على الفصيل.
قريب من ذلك بيت الخنساء التي تقول فيه:
طويل النجاد رفيع العماد ... كثير الرماد
هذا محل الشاهد.
.................................. ... كثير الرماد إذا ما شتى
فكثرة الرماد هذه كناية عن الكرم والجود؛ لأن كثرة الرماد، إنما تأتي من كثرة إحراق الحطب، وهذا يستلزم كثرة ما يُطبخ، وهذا يستلزم كرم الممدوح، ومدى الجود الذي يفيض به على الناس في إيثار الخنساء لكلمة "إذا ما شتى" دلالة على المبالغة في الكرم؛ لأنه وقت تشتد فيه حاجة المحتاجين.
نجد في البيت الأخير يقول الشاعر:
فما جازه جود ولا حل دونه ... ولكن يصير الجود حيث يصير
هذه كناية عن نسبة حيث كنى عن نسبة الجود إلى الممدوح بإثباته للمكان الذي يوجد به، ويحل فيه، فلا يتجاوزه، ولا يحل دونه.
أقرأ مرة أخرى الأبيات العشرة في معنى الكرم؛ لنعرف معنى إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة: الأبيات العشرة:
هم البحور عطاء حين تسألهم ... وفي اللقاء إذا تلقى بهم بهم
يكاد يحكيك صوب الغيث منسكبًا ... لو كان طلق المحيَّا يمطر الذهب
إن السحاب لتستحيي إذا نظرت ... إلى نداك فقاسته بما فيها
وكنت إذا كف أتتك عديمة ... ترجي نوالًا من سحابك بلتي ... سحابك بلتي
أبي أحمد الغيثين صعصعة الذي ... متى تخلف الجوزاء والدلو يمطر
وصاعقة من نصله تنكفي بها ... على أرأس الأقران خمس سحائب
يزكون نار القرى في كل شاهقة ... يلقى بها المندل الهندي محطوما
وما يك في من عيب فإني ... جبان الكلب مهزول الفصيل
طويل النجاد رفيع العماد ... كثير الرماد إذا ما شتى
فما جازه جود ولا حل دونه ... ولكن يصير الجود حيث يصير
هكذا نجد المعنى الواحد وهو الكرم يتعدد، ويأتي في صور مختلفة، أو في طرق مختلفة مع وضوح الدلالة على معنى الكرم، ولعله قد وضح أمامنا الآن من خلال التمثيل معنى الكرم مقصود التعريف هو الميدان الذي يجول فيه هذا العلم؛ لأن الكثير من الحداثيين يقولون: أن العلم البلاغة قاصر؛ لأنه يقتصر على المعنى الواحد في علم البيان، وهم فاتهم أن هذا إنما هو علم مكمل لعلم المعاني؛