وترجع غرابة الاستعارة هنا إلى ما في هذا الجامع من التفصيل، فضلًا عن كون المشبه به نادر الحضور في الذهن عند حضور المشبه؛ لتباعد الهيئتين، هيئة الفرس، وهيئة الإنسان الجالس محتبيًا، فهل يمكن للبليغ أن يحول الاستعارة المبتذلة إلى استعارة غريبة؟
نعم، يمكن ذلك، وذلك بأن يتصرف في الاستعارة المبتذلة تصرفًا يحولها من الابتذال إلى الغرابة؛ بأن يتضمن الكلام الذي وردت فيه مجازًا آخر، أو تتعدد الاستعارات، أو يتعلق بها أمر يزيد من المبالغة التي أفادتها، أو يتوخى في بناء الجمل، ونظم الكلام ما يؤدي إلى دقة التصوير، وإبراز الخيال، انظر مثلًا إلى قول كثير:
ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسح بالأركان من هو ماسح
وشدت إلى دهم المهارى رحالنا ... فلم ينظر الغادي الذي هو رائح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح
تجد أنه قد استعار السيلان للسير اللين السهل في قوله "وسالت"، وهي استعارة مبتذلة قريبة المأخذ، ولكنه أزال ابتذالها بالجمع بينها وبين المجاز العقلي في إسناد السيلان إلى الأباطح؛ ليفيد امتلاءها بالركبان؛ حتى كأنها هي التي تسير، ثم بإدخال حرف الجر الباء على الأعناق؛ ليدل على شدة السير وسرعته، فإن مظهر السرعة في الإبل هي حركة أعناقها، وبهذا تحوَّلت الاستعارة من عامية مبتذلة إلى خاصية غريبة، ونحو ذلك قول ابن المعتز:
سالت عليه شعاب الحي حين دعا ... أن صاره بوجوه كالدنانير
حيث استعار السيلان لسرعة سير القوم إلى الممدوح حين دعاهم، وهي استعارة مبتذلة أزال الشاعر ابتذالها بالمجاز، وهو إسناد السيلان إلى الشعاب؛ ليدل على