كذلك في أبيات الشعر شبه الجمل بإنسان له خاصية التمييز والشكوى، ودلَّ على هذا التشبيه بإثبات لازم المشبه به، وهو القول والشكوى للمشبه وإسناد القول والشكوى إلى الجمل قرينة مكنية، وقد سميت استعارة تخييلية.
إذن فهذا مخرج من هؤلاء الذين أنكروا أن يكون الله -عز وجل- لم يخاطب السموات والأرض، ولم يقل لهما: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا}، فإذا بالرد {أَتَيْنَا طَائِعِينَ}.
فالاستعارة بالكناية هي التشبيه المضمر في النفس المتروك أركانه سوى المشبه، المدلول عليه بإثبات لازم المشبه به للمشبه، هذا الفهم الذي فهمه المعتزلة، وهذا التأويل الذي اتجه إليه أهل التفكير منهم، والذي تصدى لهم بسببه ابن قتيبة وغيره من علماء أهل السنة، كان الهدف منه توضيح الطريقة السليمة؛ لفهم أساليب القرآن حتى لا تخرج عن أصل وضعها، وبيان أن القرآن لم يكن في ذلك بدعة، بل قد جرت أساليب الشعر على ذلك، وخرجت عن أصل وضعها لهذا الهدف، وقد فهم العرب المراد منها على هذا الوضع دون لبس أو خفاء.
وبهذا التأويل ظهرت الأساليب في صورة تشخيصية صورت الجمادات والحيوان إنسانًا له إرادة، وقوة، وشكاية، وكل ما كان يعنيهم أن يلفتوا النظر إلى أن من أساليب القرآن ما يجب أن يُدركه التأويل، وتخرج عن أصل وضعها حتى يُفهم معناها، ويُعرف المراد منها، ولم يدر بخلدهم أن هذا الخروج يسمى استعارة تصريحية، أو مكنية، وظلَّ هذا التفكير ينمو ويتزايد دون أن يضعوه تحت اسم معين، حتى كان الإمام عبد القاهر الجرجاني، فأشار إلى الاسم، وألمح إلى طريقة فهمها فقال تعليقًا على قول لبيد العامري في معلقته:
وغداة ريح قد كشفت وقرة ... إذ أصبحت بيد الشمال زمامها
فالقرة في البيت هي الريح، والشمال إنما هو نوع من الريح يأتي من جهة معينة، فقد جعل للشمال يدًا، ومعلوم أنه ليس هناك مشار إليه يمكن أن تجري اليد عليه