والجمل لم يشكُ ولكنه خبر عن كثرة أخباره، وإتعابه جمله، وقضى على ذلك الجمل بأنه ولو كان متكلمًا لاشتكى ما به، وكقول عنترة مثلًا في فرسه:
فازور من وقع القنا بلبانه ... وشكى إلي بعبرة وتحمحم
لما كان الذي أصابه يُشتكى مثله، ويستعبر منه جعله مشتكيًا ومستعبرًا، وليس هناك شكوة ولا عبرة، ففي رأيهم أن السماء والأرض من مخلوقات الله الصامتة الجامدة التي لا تنطق ولا تبين، لكنها لو كانت ممن ينطق لنطقت، وكانت في الانقياد والخضوع كالحي المتكلم، وناقة يراها الشاعر ويعاين ما عليها من أثر التعب والعناء، فيشعر ما رثاثة حالها بأنها لو تكلمت لجأرت إليه بالشكوى، ورفعت صوتها بالدعاء، عنترة يرى ما أصاب فرسه من الطعان، وما نال صدره من السهام؛ فيرسل الفرس صهيله، ويطلق عويله، وكأنه يشكو الوجع، ويتبرم من الألم، وللرد على ذلك نقول: إن هذا لون من ألوان التصوير يمكن أن نسميه التشخيص يتمثَّل في خلع الحياة على المواد الجامدة، والظواهر الطبيعية هذه الحياة التي ترتقي فتصبح حياة إنسانية، ويهب لهذه الأشياء كلها عواطف آدمية، وخلجات إنسانية تشارك بها الآدميين، وتأخذ منهم وتعطي.
هذا الكلام السابق ذكره الشيخ سيد سابق في كتابه (التصوير الفني في القرآن الكريم)، ونحن حينما نحلل هذا التشخيص نرى أن هناك تشبيهًا مضمرًا في النفس؛ نتيجة لعمق العاطفة وسعة الخيال، فمثلًا في الآية القرآنية {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (فصلت: 11) شُبهت السماء والأرض في انقيادهما وخضوعهما وطاعتهما لله بإنسان يتميز بصفة القول، والإتيان، ودلَّ على هذا التشبيه بإثبات لازم المشبه به، وهو القول والإتيان للمشبه، ودلَّ على هذا التشبيه بإثباته لازم المشبه به، وهو القول والإتيان للمشبه، وهذا ما عُرف بالاستعارة بالكناية، وإسناد القول والإتيان إليهما قرينة الاستعارة، وأطلق البلاغيون على تلك القرينة استعارة تخييلية.