أتيح له حبل

فهنا شبه المصلوب بصورة من يقيس الحبال بذراعيه، فهو يمدها إلى جانبي كتفيه ما دام يبوع -أي: يقيس بالباع. وقد حقق الشاعر في المشبه به هيئة السكون الدائم الذي رآها في المشبه، وذلك بقوله "إذا ما انقضى حبل أتيح له حبل"، فالذي يبوع لا يحرك يديه؛ ليمرر الحبل بينهما، بل الحبل يُتاح ويمر بين يديه، فاليدان في حالة مد دائم بلا حركة، ووجه الشبه هو الهيئة الحاصلة من القامة المنتصبة، والأذرع الممتدة مدًّا متواصلًا.

وبتأمل هذه التشبيهات نجد اختلافًا دقيقًا بين إبراز كل صورة منها لهيئة المصلوب وأعضائه الساكنة سكونًا متواصلًا؛ فالأخيطل في بيته الأول قد حقق الصفرة التي رآها في وجه المصلوب، وهي صفرة الموت بأن جعله كالعاشق الذي أصفر وجهه من أثر العشق، وحقق أيضًا دوام السكون بأن جعل مد الصفحة في يوم وداع ورحيل، فهو قد سكن وتحجر في مكانه لرحيل عشيقه عنه، ولكن فاته إتمام أعضاء الهيئة؛ فالمصلوب مُدَّت يداه، والعاشق قد مد يدًا واحدة، وفي بيته الثاني حقق هيئة المصلوب في القائم من النعاس بأن جعله متمطيًا مادًّا ذراعيه، ثم حقق دوام السكون لجعله التمطي متواصلًا، وبذكر سبب المواصلة، وهو اللوثة والكسل، ولكن فاته تحقيق صفرة الموت الموجودة في المصلوب.

وابن الرومي في تشبيهه قد حقق هيئة المصلوب في هيئة من يبوع الحبال، حقق أيضًا دوام سكون الأعضاء واستقرارها على هيئتها بقوله: "إذا ما انقضى حبل أتيح له حبل"، وذكر كذلك السبب في إطالة مدِّ الذراعين، وهو بوع الحبال الكثيرة، فهي حبال في الجو كثيرة، وكلما انقضى حبل أُتيح له آخر، كما حقق تمام أعضاء الهيئة من مدِّ للذراعين، ومن ميل للعشق.

من رائع التشبيهات التي الوجه فيها مركبًا حسيًّا تلك التشبيهات المركبة التي جاء وجه الشبه فيها حسيًّا مكونًا من اختلاط الألوان المجردة من الحركة، كقول ابن المعتز يصف زهر النرجس:

كأن عيون النرجس الغض حولنا ... مداهن ضر حشوهن عقيق

فقد شبه في هذا البيت زهر النرجس بمداهن ضر حشوهن عقيق، ووجه الشبه هو الهيئة المكونة من بياض قد التفَّ حول سواد أو حمرة، ويدخل في هذا الباب قوله يصف الثريا وسط الظلام:

وأرى الثريا في السماء كأنها ... قدم تبدَّت من ثياب حداد

هنا شبه الثريا في السماء وسط ظلام الليل بقدم بدت من ثياب أسود، ووجه الشبه هو الهيئة المكونة من بياض ظهر في وسط سواد، ومنه قول غيره:

كأن أجرام النجوم لوامعًا ... دُرَرٌ نثرن على بساط أزرق

فوجه الشبه في البيت هو الهيئة المكونة من أجرام بيضاء مضيئة صغيرة نثرت على صفحة شيء أزرق صافي الزرقة، فنحن إذن أمام إبداعات للشعراء جاء الوجه في كل تشبيه منها مركبًا حسيًّا، تارة جاء مكونًا من هيئة منضم إليها بعض الصفات، وتارة جاء مكونًا من هيئة مجردة من الصفات، وتارة ثالثة من هيئة ساكنة، وتارة رابعة من هيئة مكونة من اختلاط ألوان مجردة من الحركة، ومما هو شديد الصلة بما سبق من ضرورة تحرِّي عموم أجزاء، وأحوال وجه الشبه في صور التشبيه المركبة بالذات، ما جاء في قول كُثير عندما قال:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015