الحكماء على عادة الفضلاء، احتاج ضرورة إلى تقديم العناية بأصول هي الأساس، وحفظ فصول هي الأركان، ولن ينفعه تقديمها دون إحكامها، كما لا يجدي عليه حفظها دون عرفانها. فمن أوائل تلك العناية جمع بدد الكلام، ثم الصبر على دراسة محاسنه، ثم الرياضة بتأليف ما شاكل كثيراً منه، أو وقع قريباً إليه، وتنزيل ذلك على شرح الحال ألا يقتصر على معرفة التأليف دون معرفة حسن التأليف، ثم لا يقف مع اللفظ وإن كان بارعاً رشيقاً حتى يفلي المعنى فلياً ويتصفح المغزى تصفحاً، ويقضي من حقه ما يلزم في حكم العقل ليبرأ من عارض سقم، ويسلم من ظاهر استحالة، ويتعمد حقيقته أولاً ثم يؤسسه ثانياً ليترقرق عليه ماء الصدق، ويبدو منه لألاء الحقيقة؛ ولن يتم ذلك حتى يجنبه غريب اللفظ ووحشيه، ومستكرهه وبدويه، ويزل عن ربوة ذي العنجهية وأصحاب اللوثة وأرباب الجعظرة، بعد أن يرتقي عن مساقط العامة في هجر كلامها ومرذول تأليفها؛ وبعض بني أسد يقول: الطويل
وإني على ما كان من عجرفيتي ... ولوثة أعرابيتي لأديب
أما ترى هذا الأعرابي كيف يميز بين المطبوع والمتكلف باعترافه أن فيه عجرفية ولوثة، هذا وهو معذور في ذلك لأنه يجري منه على عرق سليم من الأبن، ولسان مفتوق على اللسن، وسليقة مصحوبة بالفطن. فما ظنك بعد هذا بغيره ممن لا يقيم حرفاً إلا على تحريف، ولا يروي كلمة إلا على تصحيف، ويأنف من مسألة من شفاؤه عنده، وكماله بيده، وبرؤه بطبه؟