واعلم أن الله تعالى جعل للمؤمن نورين: أحدهما ظاهر، والآخر باطن، فظاهره آلةٌ لباطنه، وباطنه عدّةٌ لآخرته ومعاده. فمن أفاعيل الظاهر طلب معاشه، واستصلاح أموره، ودفع المضارّ عن بدنه، والتحفّظ من الموارد المخوفة في عاجلته؛ ومن أفاعيل الباطن طهارة قلبه، وإخلاص نيّته لربّه، وتوهّم ما وعده على طاعته من ثوابه، واختيار العفو في الانتقام، والأناة على الإقدام، ونفي الأحقاد، وإطفاء نار الجسد، وإيثار الصّدق وإن ظنّه لا ينجيه من عدوّه، والوفاء لمن وثق به، والحياء من كشف أحدٍ عن ذنبه، وخلع طاعة الشّهوات، وقمع حومة الشّهوة، واستشعار القناعة، ورفض معاشرة الحرص، وإجلال العلماء، وتفضيل العلم، وأخذ النّفس بوظائف الكرم وفرائض الذّمام؛ وهذا النّور الرّوحانيّ على حسب ما يعطي الإنسان منه يكون مرغبه في العمل الصالح، وحبّه للسلامة من الأدناس، وتمسّكه بمحاسن الخصال.

وإذا استحكم علم الإنسان، ودقّت رويّته، كان جلّ سعيه فيما يحرز به نصيبه من الكدّ الذي لا نهاية له، ويبلغ ما يقيم بدنه وإن قلّ قدره، لعلمه بزوال اللذّات، وتصرّم الشهوات، وأنّه وإن رخص في المواتاة لم تكن لذلك نهاية، لا يملّ ما يطرف به، ويستطرف ما في يد غيره، وهذا ينفد الأوقات، ويستغرق الأعمار، ولذلك وجب على ذي اللّبّ والمعرفة رفض الدّنيا، والأخذ منها بالبلغة، والانشغال بجميعه في إحراز حظّه الذي يستريح بالوصول إليه من الألم، ووجب عليه الصبر على مكابدة النّوائب النازلة، والفجائع الواردة، إذ علم أنّ لها انقطاعاً لا محالة، وأنّ الدولة تسلبها، والأيام تزيلها وتغيّبها، فإذا صحّح هذا عنده اليقين استخفّ المكاره، واستحقر بعزائه المصائب، ولم يعرّج من الدنيا إّلا على بلغة، ثم يكون كالغريب المحتبس عن أهله ووطنه، الأسير في يدّ عدوّه، لا يتهنّأ بشيء من عيشه، ولا يستريح إّلا إلى الحيل في التخلّص ممّا حلّ به من الذّل والأسر.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015