وقد استخرج أمير المؤمنين - عليه السلام - أشياء من الأحكام لما عدم البينات فيها، وتجاهل أهل الدعوى ولزموا الإنكار بهذا النوع من الاستخراج، فمن ذلك أنه لما أتى بامرأتين وصبي، وادعت كل واحدة منهما أن الصبي ابنهما أعمل فكره وظنه، فعلم أن من شأن الوالدة الرقة على الولد، والمحبة لدفع الآفة عنه فقال قنبر: خذ السيف واقطع الولد نصفين، وادفع إلى كل واحدة منهما نصفه، فلما سمعت الوا لدة بذلك أدركها الإشفاق فقالت: أنا أسمح بحصتي لصابحتي، فعلم أنه ابنها فسلمه إليها. وكذلك فعل بالرجلين اللذين ادعى كل واحد منهما أن الآخر عبده، فإنه علم ما يتداخل النفس من الجزع عند معاينة الموت، وأن تلك الحال تذهب عن لزوم الدعوى، وتشغل عن طلب الحجة، فقد مهما ومد أعناقهما، وقال لبعض أصحابه: اضرب عنق العبد، فثنى العبد عنقه حذراً من السيف، فظهر، بذلك أنه العبد دون الآخر، فسلمه إلى صاحبه.
وكل هذه الأحوال التي عددناها إنما تقع أوائلها بالظن، فإن شهد لها ما يخرجها إلى اليقين صارت يقيناً، وإلا كانت تهمة وظَنة وإثماً، ألا ترى أنك تظن بالترجمة أنها حروف فإذا أردتها في سائر المواضع التي تثبت صورها فيها، وامتحنتها فوجدتها مصدقة لظنك، حكمت بصحتها، وإذا خالفت علمت أن ظنك لم يقع موقعه، فأوقعته على غير تلك الحروف إلى أن يصح.
ويشهد لما قلناه - من أن الظن إذا لم يشهد له ما يقويه ويحققه، فليس ينبغي أن نلتفت إليه - قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاث