جاءت المحنة الكبرى وهي منع شيخ الإسلام شد الرحال إلى قبر النبي عليه الصلاة والسلام، عندما جاءه رجل وسأله: ما تقول السادة العلماء في شد الرحال إلى قبور الأنبياء والصالحين، ومنهم قبر نبينا صلى الله عليه وسلم، هل هذا جائز، أم لا؟ فكتب كتاباً ذهب فيه إلى عدم الجواز، وقال: إنه لا يجوز لأحدٍ أن يشد رحاله إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فقامت القيامة عليه وقالوا: هذا يكره النبي صلى الله عليه وسلم، يمنع زيارة قبر النبي! طيب أيكون هذا مسلماً! فحرفوا فتوى شيخ الإسلام وقالوا: إنه يقول: لا يستحب أن تذهب إلى المدينة، هل قالها؟ وقد رد شيخ الإسلام ابن تيمية في أكثر من أربعة مواضع في غير هذا الكتاب على هؤلاء: هل سمع له أحد؟ هل رجع أحد وتحقق من صدق كلامه؟ الجواب: لا.
واستمروا في التأليب عليه، حتى حبس هذه المرة في دمشق؛ لأنه مكث في مصر سبع سنوات ثم انتقل سنة (712) إلى دمشق، فكان يكتب الفتاوى في الأوراق، وكان آنذاك مكرماً فسمح للناس بزيارته وإدخال كل الأوراق والكتب، ولا يحجب عن الناس، كالإقامة الجبرية فسمحوا للناس أن يدخلوا إليه، لكنه لا يخرج، وكان الأعيان والعلماء يستفتونه من باب ويأتيه الآخرون من باب آخر، فكان منشغلاً إما بالتصريح وإما بالفتوى وإما بحل المشاكل بين الناس، إلى أن شدد المخالفون عليه فأبقوه في السجن ليستريح، ومنعوا الدخول إليه والاستفتاء منه، ومن العجب أن العلماء كانوا موجودين بالمئات، ومع ذلك لم يكونوا يأتمنون أحداً على الفتوى كمثل شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو مسجون: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18] وقد أكرمه الله تبارك وتعالى، فما له من مهين، إلى أن أخذوا منه الأوراق والأقلام، ومنعوا أحداً أن يدخل عليه، فبدأ المرض يشتد على جسد ابن تيمية رحمه الله، وظل مريضاً نحو شهر كامل، ثم وافاه الأجل رحمه الله ليلة الإثنين في (26 من ذي القعدة سنة 728هـ) بعد حياة حافلة، فهذا مجمل حياة شيخ الإسلام ابن تيمية.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وبعد: فإن مسألة شد الرحال إلى القبر، انتصر شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا البحث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) وقد ذكر علماء العربية والأصول: أن نفي الاستثناء يفيد الحصر (لا وإلا) ، وإذا وجدت في الكلام اعلم أن المعنى محصور على ما ذكر بالنص، لا إله إلا الله، هذه (لا) نفي (إلا) أداة استثناء، فعندما يأتي على الاستثناء النفي، يبقى محصوراً: لا إله إلا الله، فنفى الألوهية عن كل أحدٍِ إلا الله، فيبقى أنه أثبت للمذكور في الكلام ونفاه عن ما عداه، فأثبت الألوهية لله ونفاها عن كل من عداه، فعندما يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) أي: لا يجوز شد الرحال إلا للمسجد، فإذا شددت الرحال إلى المسجد والقبر بالمسجد فإنك تذهب لزيارة القبر، ولزيارة القبر آداب وهي: كذا وكذا يبقى: هل شيخ الإسلام ابن تيمية يحرم زيارة قبر الرسول عليه الصلاة والسلام؟! ما قال هذا شيخ الإسلام وإنما قال: لا يجوز أن تخرج من بلدك وقد نويت شد الرحال إلى القبر وحده، لكن انو شد الرحال إلى المسجد والقبر في المسجد، فستحصل زيارة القبر تبعاً، لكن لا تكن النية أصلاً مخصصة للقبر دون المسجد، ولذلك أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية على أن الرجل إذا خرج من بيته وقال: سأزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم، أن هذا سفر معصية، ولا يجوز له أن يقصر في سفره الصلاة، ولا يجوز له أن يفطر في رمضان؛ لأن هذه الرخص هي في السفر إلى الطاعات لا للمعاصي.
فلو الآن انفصل قبر النبي عليه الصلاة والسلام عن المسجد لوجدت بعض الناس يزور قبره ولا يدخل المسجد؛ لأنه خرج لا ينوي الصلاة في المسجد إنما نوى زيارة القبر، وهذا غلو نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه وقال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد) وقد صار وثناً عند طائفة من الناس الذين ينتسبون لآل البيت وعلى رأسهم الشيعة في كل طوائفهم.
قبل سنوات أرادت إدارة المسجد النبوي أن تغير نوافذ تكييف الحجرة النبوية، وتجعل التكييف والمواصير من فوق، فأرادوا أن يدخلوا الإسمنت والحديد ويرفعوا المواصير هاجت الرافضة وقالوا: يريدون أن يهزوا القبر، فما اجترءوا على أن يصلحوا شبكة التكييف؛ لأن للرافضة دولة في مكة والمدينة، فأشاعوا أن الوهابيين يكرهون النبي فأرادوا أن يهدوا القبر بدعوى إصلاح التكييف، وما شعروا إلا ومكة والمدينة ملآنة بالناس من الذي عمل هذا؟ هناك غلاة الروافض، هم المسئولون على مكة والمدينة.
فشيخ الإسلام ابن تيمية عندما قرر هذه الحقيقة اتهموه بأنه يحرم زيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام.
والشيء الآخر الذي أريد أن أذكر به طلاب العلم هو: لابد أن تعلموا أن أعظم شيء يثبت العلم هو الإخلاص في طلبه وأدائه، شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كان رجلاً ذاكراً، يقول شمس الدين الذهبي تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية: كان له أورادٌ يدمنها، وكان كثير الفكر، رابط الجأش، لا يترك الجلوس بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس أبداً، ويقول: هذه غدوتي لو تركتها نقصت قواي، وكان إذا سئل مسألةً أو أشكلت عليه ولم يتبين وجه الصواب يكثر من الاستغفار، حتى كان يقول: إذا أشكل عليَّ شيء من الجواب أذكر الله ألف مرة ويزيد، وأستغفره ألف مرة ويزيد، حتى يفتح عليه.
أما غيره من طلاب العلم والعلماء إذا أشكل عليهم شيء قالوا: لابد أن نروح عن أنفسنا ونرفه عليها! وكل واحد من طلاب العلم يقول: أنا أحس بملل إذاً نذهب رحلة ترفيهية، كل هذا من أجل أن يفتح له! لا يفتح لك في العلم الشرعي إلا إذا أتيت الأمر من بابه، كما فعل شيخ الإسلام فإنه يكثر من الاستغفار، وكان يقول: لقد ذهبت إلى الخلوات -التي ليس فيها أحد من أقربائه- فأمرغ وجهي في التراب، وأقول: يا معلم إبراهيم علمني، فلا يرجع إلا وقد فتح له، وكان مباركاً في التصميم والكتابة واللغة، حتى تحس بأن واحداً يقذفك بالحجارة، ألفاظه قوية تحتاج إلى قاموس، وشيخ الإسلام ابن تيمية جعل الفقه سهلاً مبسطاً حتى إذا قرأت في كتب الفقه تحس أنك لا تريد أن تتوقف عن القراءة، لقد قرب الفقه إلى الناس، يقول ابن القيم في الوابل الصيب: وقد رأيت منه شيئاً عجيباً، كان يكتب في ليلة ما ينسخه الناسخ في جمعة.
يعني: يمكث يكتب في ليلة هكذا.
وواحد ينسخ لنفسه نسخة في أسبوع ينقل فيه الكلام، من الأولى بالوقت والحاجة هذه؟ الذي ينسخ بلا عقل، أو الذي يبسط ويرتب الأدلة؟ لا شك أن الذي يأتي بالأدلة محتاج إلى وقت، يعني: يقعد يكتب في ليلة كذا، كلمة مثلاً.
ورقة، وواحد ينسخ لنفسه نسخة يمكث أسبوعاً ينقل فيه الكلام.
فالذي يريد أن ينسخ يحتاج أن يرتب الأدلة والمواضيع وينظر إلى النسخ، فهذا بلا شك أنه يحتاج إلى وقت كبير، أما ابن تيمية فكان كالسيل الهادر إذا كتب أو تكلم.