احتج أهل البدع على تقسيم البدعة إلى بدعة حسنة وبدعة سيئة، بالحديث الذي رواه مسلم عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: (بينما كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء قوم عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، مجتابي النمار؛ فلما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم، تمعر وجهه -مما رآهم عليه من الفاقة- فأمر بلالاً فأذن فأقام فصلى، فخطب في الناس ثم قال: ليتصدق أحدكم من صاع بره، من صاع تمره، من درهمه، حتى ذكر شق التمرة، فقام رجل من الأنصار فأتى بصرة كادت يده أن تعجز عن حملها بل عجزت فوضعها، فتتابع الناس كل يأتي بما عنده حتى صار عند النبي صلى الله عليه وسلم كومان من طعام وإهاب، فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تهلل كأنه مذهب، ثم قال: من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن في الإسلام سنةً سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) .
فهذا الحديث أحد أدلتهم على وجود ما يسمى بالبدعة الحسنة، وأول سؤال يتبادر إلى الذهن: نحن نعلم أن البدعة طريقة في الدين مخترعة، ترى ما الذي اخترعه الأنصاري؟! ما فعل الأنصاري أكثر من أنه جاء بصرة مال اتباعاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم: القائل: (ليتصدق ... ) إذاً الذي جاء به الأنصاري صدقة، فعندما قيل: (ليتصدق أحدكم) جاء بصدقة، فهل الصدقة ابتدعها الأنصاري أم حض عليها تبارك وتعالى في الكتاب المنزل، وحض عليها النبي عليه الصلاة والسلام في كلامه؟ إذاً ما وجه الاحتجاج بهذا الحديث على وجود البدعة الحسنة؟ إنه لما فصل الكلام عن سياق الموضوع ظهر هذا المعنى الجديد، فليس في هذا الحديث حجة على الذين يقولون بالبدعة الحسنة، لاسيما وكلام النبي صلى الله عليه وسلم الذي لم يدخله مكذوب قط يمنع من القول بذلك، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (كل بدعة ضلالة) جملة موجبةٌ كلية، (موجبة) : لم يسبقها ناصب ولا جازم (كلية) : أي مكبرةٌ بلفظ (كل) الذي يفيد العموم والشمول، وهذا كقوله عليه الصلاة والسلام: (كل مسلم) فهي جملة من أقوى الجمل، بل هي قاعدةٌ فقهية لشمولها، ولا تسمى القاعدة قاعدة إلا إذا انتظمت كل الجزئيات تحتها.
إذاً لا يصير القول قاعدة إلا إذا كانت جميع الجزئيات تحته، وهذا الحديث قاعدة كلية.
ومما يحتج به أيضاً هؤلاء المبتدعة: قوله عليه الصلاة والسلام: (ما رآه المسلمون حسناً فهو حسن، وما رأوه قبيحاً فهو قبيح) .
والجواب: أن هذا الحديث لا أصل له مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس له وجهٌ صحيح، إنما الصواب: أنه من كلام ابن مسعود، لكن المبتدعة نزعوه من كلام ابن مسعود أيضاً.
فـ ابن مسعود لم يقل هذه الكلمة فقط، بل قال كلاماً قبلها، وإذا قرأت الكلام قبلها علمت كيف لعبوا أيضاً بكلام ابن مسعود ونزعوه من السياق، قال ابن مسعود رضي الله عنه: (إن الله نظر في قلوب العالمين، فاختار قلب محمد صلى الله عليه وآله وسلم لرسالته؛ ثم نظر في قلوب العالمين فاختار أصحابه له، فما رآه المسلمون حسناً فهو حسن، وما رآه المسلمون قبيحاً فهو قبيح) .
فانظر إلى الجملة عندما وضعت في مكانها هل أفادت ما يحتج به؟ الجواب: لا.
(ثم نظر في قلوب أصحابه فاختارهم له، فما رآه المسلمون) فمن المقصود بالمسلمين هنا؟ إنهم أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، إذاً لفظ المسلم وإن خرج مخرج العموم فالمقصود به هم أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام بدلالة السياق، والسياق (أيها المسلمون) من المقيدات وهذه خطورته، وخطورة نزع كلمة أو جملة منه، فكلمة (عين) إذا سمعتها أيها العربي فأول شيء يتبادر إلى ذهنك أنها العين التي تبصر بها، فإذا سمعته يقول: صنعتها على عيني، هل يعني هذا أنه وضع شيئاً في عينه واشتغل فيه؟ (صنعته على عيني) أي: أوليته اهتمامي، والذي جعلك تؤول لفظ العين في المثال الثاني هو السياق، فإذا قلت: أرسلت إلى العدو عيناً، أليس هذا هو الجاسوس؟ تعددت معاني كلمة العين عندما أدخلتها في السياق، والسياق هو الذي يرجح المعنى، لذلك حذف كلمة أو جملة منه جريمة.
الفعل (رغب) يتعدى بحرف الجر (عن) مرة، و (في) مرة، وفي كلا التعديتين مناقضة للأخرى، تقول: رغبت في كذا أي: أردته، ورغبت عنه أي: كرهته، ما الذي حول هذا اللفظ؟ إنه السياق.
ولذلك قول ابن مسعود رضي الله عنه: (ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن) أي: ما رآه الصحابة، بدلالة السياق؛ لأنه أورد هذا الكلام تعظيماً لأصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، ولئن قلنا: ليس المقصود بالمسلمين خصوص الصحابة، فيكون لفظ المسلمين يفيد إجماع المسلمين، والإجماع حجة شرعية ملزمة إذا ثبتت، وهو أحد الأدلة الأربعة المتفق عليها بين الجماهير، وهي: القرآن، والسنة، والإجماع، والقياس، ومن العلماء من يكفر مخالف الإجماع، وأكثرهم يضللونه ويفسقونه.
فيكون اللفظ: (ما رآه المسلمون) أي: ما رآه العلماء المحققون إجماعاً قطعاً هو عند الله حسن، والدلالة على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عصم هذه الأمة أن تجتمع على ضلالة) والسر في ذلك أن أية أمة تبتدع بدعة أو تغير شيئاً في شريعتها كان الله ينزل نبياً، كما حدث لبني إسرائيل، فلما قضى الله تبارك وتعالى أن نبينا صلى الله عليه وسلم آخر الرسل، ولو ابتدعت الأمم بدعة أو غيرت شيئاً من شريعتها فلن يرسل رسولاً؛ لأنه عصم الأمة أن تجتمع على ضلالة.
وليس المقصود بالأمة هنا من كانت في مصر أو في الشام، بل المقصود: مجموع الأمة كلها، فلو أجمع الناس في بلدنا على تحليل الخمر مثلاً، فطالما أن هناك في الشام من ينكرها فقد خرق الإجماع، ولا يكون إجماعاً حينئذٍ، ويستحيل أن تجد الأمة مجمعة على تحريم ما أحل الله، أو على تحليل ما حرم الله، وإلا ذهبت حجة الله على الخلق، بل ما من مكانٍ إلا ولله فيه قائم بحجة.
إذاً: قوله: (ما رآه المسلمون حسناً) لا يستفاد منه إلا تحريم أي شيء من البدع، لا سيما إذا علمنا أن البدعة هي طريقة في الدين مخترعة.