يبكى فقال له: مالك تبكى؟ فَقَالَ: إِنِّي كَانَ مَعِي رَغِيفَانِ أُرِيدُ أَنْ أتقوتهما فَأَخَذَهُمَا مِنِّي بَعْضُ الْجُنْدِ، فَقَالَ: لَهُ أَتَعْرِفُهُ إِذَا رَأَيْتَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَوَقَفَ بِهِ فِي موضع مضيق حتى مر عليه ذلك الرجل الّذي أخذ رغيفيه، قَالَ: هَذَا هُوَ، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يَنْزِلَ عن فرسه وأن بحمل حزمته التي احتطبها حَتَّى يَبْلُغَ بِهَا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَرَادَ أَنْ يَفْتَدِيَ مِنْ ذَلِكَ بِمَالٍ جَزِيلٍ فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ، حَتَّى تَأَدَّبَ بِهِ الْجَيْشُ كُلُّهُمْ.
وَكَانَ يصرف كل جمعة عشرين ألف درهم على الفقراء والأرامل، وَفِي كُلِّ شَهْرٍ عِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فِي تَكْفِينِ الْمَوْتَى، وَيَصْرِفُ فِي كُلِّ سَنَةٍ أَلْفَ دينار إلى عشرين نفسا يحجون عن والدته، وَعَنْ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، لِأَنَّهُ كَانَ السَّبَبَ فِي تَمْلِيكِهِ، وَثَلَاثَةَ آلَافِ دِينَارٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ إلى الحدادين والحذّائين لأجل المنقطعين من همذان وبغداد، يصلحون الْأَحْذِيَةَ وَنِعَالَ دَوَابِّهِمْ، وَيَصْرِفُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ إِلَى الْحَرَمَيْنِ صَدَقَةً عَلَى الْمُجَاوِرِينَ، وَعِمَارَةِ الْمَصَانِعِ، وَإِصْلَاحِ الْمِيَاهِ فِي طَرِيقِ الحجاز، وحفر الآبار. وما اجتاز في طريقه وأسفاره بما إِلَّا بَنَي عِنْدَهُ قَرْيَةً، وَعُمِّرَ فِي أَيَّامِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ وَالْخَانَاتِ مَا يُنَيِّفُ عَلَى أَلْفَيْ مَسْجِدٍ وَخَانٍ، هَذَا كُلُّهُ خَارِجًا عَمَّا يَصْرِفُ مِنْ دِيوَانِهِ مِنَ الْجِرَايَاتِ، وَالنَّفَقَاتِ وَالصَّدَقَاتِ، وَالْبِرِّ وَالصِّلَاتِ، عَلَى أَصْنَافِ النَّاسِ، مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْقُضَاةِ، والمؤذنين والأشراف، والشهود والفقراء، والمساكين والأيتام والأرامل. وكان مع هذا كَثِيرَ الصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَكَانَ لَهُ مِنَ الدَّوَابِّ المربوطة في سبيل الله وفي الحشر ما ينيف على عشرين ألف دابة. توفى في هذه السنة رحمه الله عن نيف وثمانين سنة، ودفن في مشهد عَلَيٍّ، وَتَرَكَ مِنَ الْأَمْوَالِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفَ بَدْرَةٍ، وَنَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ بَدْرَةً، الْبَدْرَةُ عَشَرَةُ آلَافٍ، رحمه الله.
أَبُو عَلِيٍّ الهمدانيّ، أَحَدُ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ بِبَغْدَادَ، عُنِيَ أَوَّلًا بِالْحَدِيثِ فسمع منه أبو حامد المروزي وَرَوَى عَنْهُ الْأَزْهَرِيُّ، وَقَالَ: كَانَ ضَعِيفًا لَيْسَ بِشَيْءٍ فِي الْحَدِيثِ.
أَبُو مُحَمَّدٍ الْأَسَدِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْأَكْفَانِيِّ، قَاضِي قُضَاةِ بَغْدَادَ، وُلِدَ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَرَوَى عَنِ القاضي المحاملي، ومحمد بن خلف، وَابْنِ عُقْدَةَ وَغَيْرِهِمْ، وَعَنْهُ الْبَرْقَانِيُّ وَالتَّنُوخِيُّ، يُقَالُ إِنَّهُ أَنْفَقَ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ مِائَةَ أَلْفِ دينار، وكان عفيفا نزها، صين العرض. توفى فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَلِيَ الْحُكْمَ مِنْهَا أَرْبَعِينَ سَنَةً نِيَابَةً وَاسْتِقْلَالًا، رحمه الله.
ابن محمد بن عبد الله بن إدريس بن سَعْدٍ، الْحَافِظُ الْإِسْتَرَابَاذِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْإِدْرِيسِيِّ، رَحَلَ فِي طلب العلم والحديث، وَعُنِيَ بِهِ وَسَمِعَ الْأَصَمَّ وَغَيْرَهُ، وَسَكَنَ سَمَرْقَنْدَ، وصنف لها تاريخا وعرضه على الدار قطنى فَاسْتَحْسَنَهُ، وَحَدَّثَ بِبَغْدَادَ فَسَمِعَ مِنْهُ الْأَزْهَرِيُّ وَالتَّنُوخِيُّ، وكان ثقة حافظا.