عمه ثم ركب من فوره من البرية وقصد دِمَشْقَ، وَاسْتَعْمَلَ الْعُمَّالَ وَجَاءَتْهُ الْبَيْعَةُ مِنَ الْآفَاقِ، وَجَاءَتْهُ الْوُفُودُ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ- وهو إذ ذاك نائب أرمينية- يُبَارِكُ لَهُ فِي خِلَافَةِ اللَّهِ لَهُ عَلَى عِبَادِهِ وَالتَّمْكِينِ فِي بِلَادِهِ، وَيُهَنِّئُهُ بِمَوْتِ هِشَامٍ وَظَفْرِهِ بِهِ، وَالتَّحَكُّمِ فِي أَمْوَالِهِ وَحَوَاصِلِهِ، وَيَذْكُرُ لَهُ أَنَّهُ جَدَّدَ الْبَيْعَةَ لَهُ فِي بِلَادِهِ، وَأَنَّهُمْ فَرِحُوا وَاسْتَبْشَرُوا بِذَلِكَ، وَلَوْلَا خَوْفُهُ مِنَ الثغر لاستناب عليه وركب بنفسه شَوْقًا إِلَى رُؤْيَتِهِ، وَرَغْبَةً فِي مُشَافَهَتِهِ، ثُمَّ إِنَّ الْوَلِيدَ سَارَ فِي النَّاسِ سِيرَةً حَسَنَةً بَادِيَ الرَّأْيِ وَأَمَرَ بِإِعْطَاءِ الزَّمْنَى وَالْمَجْذُومِينَ وَالْعُمْيَانَ لِكُلِّ إِنْسَانٍ خَادِمًا، وَأَخْرَجَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ الطِّيبَ وَالتُّحَفَ لِعِيَالَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَزَادَ فِي أُعْطِيَّاتِ النَّاسِ، وَلَا سِيَّمَا أَهْلَ الشَّامِ وَالْوُفُودَ، وَكَانَ كَرِيمًا مُمَدَّحًا شَاعِرًا مُجِيدًا، لَا يُسْأَلُ شَيْئًا قط فيقول لا، ومن شعره قَوْلُهُ يَمْدَحُ نَفْسَهُ بِالْكَرَمِ:
ضَمِنْتُ لَكُمْ إِنْ لَمْ تَعُقْنِي عَوَائِقُ ... بِأَنَّ سَمَاءَ الضُّرِّ عَنْكُمْ سَتُقْلِعُ
سَيُوشِكُ إِلْحَاقٌ مَعًا وَزِيَادَةٌ ... وَأَعْطِيَةٌ مِنِّي إليكم تبرّع
محرّمكم ديوانكم وعطاؤكم ... به يكتب الْكُتَّابُ شَهْرًا وَتَطْبَعُ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَقَدَ الْوَلِيدُ الْبَيْعَةَ لِابْنِهِ الْحَكَمِ ثُمَّ عُثْمَانَ، عَلَى أَنْ يَكُونَا وَلِيِّيِ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ، وَبَعَثَ الْبَيْعَةَ إِلَى يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ أَمِيرِ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ، فَأَرْسَلَهَا إِلَى نَائِبِ خُرَاسَانَ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ، فَخَطَبَ بِذَلِكَ نَصْرٌ خُطْبَةً عَظِيمَةً بَلِيغَةً طويلة، ساقها ابن جرير بكمالها، واستوثق لِلْوَلِيدِ الْمَمَالِكُ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ، وَأَخَذَتِ الْبَيْعَةُ لِوَلَدَيْهِ مِنْ بَعْدِهِ فِي الْآفَاقِ، وَكَتَبَ الْوَلِيدُ إِلَى نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ بِالِاسْتِقْلَالِ بِوِلَايَةِ خُرَاسَانَ، ثُمَّ وَفَدَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ عَلَى الْوَلِيدِ فَسَأَلَهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِ وِلَايَةَ خُرَاسَانَ فَرَدَّهَا إِلَيْهِ كَمَا كَانَتْ فِي أَيَّامِ هِشَامٍ، وَأَنْ يَكُونَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ وَنُوَّابُهُ مِنْ تَحْتِ يَدِهِ، فَكَتَبَ عِنْدَ ذَلِكَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ إِلَى نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ يَسْتَوْفِدُهُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَهْلِهِ وَعِيَالِهِ، وَأَنْ يُكْثِرَ مِنَ اسْتِصْحَابِ الْهَدَايَا وَالتُّحَفِ.
فَحَمَلَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ أَلْفَ مَمْلُوكٍ عَلَى الْخَيْلِ، وَأَلْفَ وَصِيفَةٍ وَشَيْئًا كَثِيرًا مِنْ أَبَارِيقِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ التُّحَفِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ الْوَلِيدُ يَسْتَحِثُّهُ سَرِيعًا وَيَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَحْمِلَ مَعَهُ طَنَابِيرَ وَبَرَابِطَ وَمُغْنِيَاتٍ وبازات وبراذين فره، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ آلَاتِ الطَّرَبِ وَالْفِسْقِ، فَكَرِهَ النَّاسُ ذَلِكَ مِنْهُ وَكَرِهُوهُ. وَقَالَ الْمُنَجِّمُونَ لِنَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ: إِنَّ الْفِتْنَةَ قَرِيبًا سَتَقَعُ بِالشَّامِ، فَجَعَلَ يَتَثَاقَلُ فِي سَيْرِهِ، فَلَمَّا أَنْ كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ جَاءَتْهُ الْبُرُدُ فَأَخْبَرُوهُ بِأَنَّ الْخَلِيفَةَ الْوَلِيدَ قَدْ قُتِلَ وَهَاجَتِ الْفِتْنَةُ الْعَظِيمَةُ فِي النَّاسِ بِالشَّامِ، فَعَدَلَ بِمَا مَعَهُ إِلَى بَعْضِ الْمُدُنِ فَأَقَامَ بِهَا، وَبَلَغَهُ أَنَّ يُوسُفَ بْنَ عُمَرَ قَدْ هَرَبَ مِنَ الْعِرَاقِ وَاضْطَرَبَتِ الْأُمُورُ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ قَتْلِ الْخَلِيفَةِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، وباللَّه الْمُسْتَعَانِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَّى الْوَلِيدُ يُوسُفَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الثَّقَفِيَّ وِلَايَةَ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالطَّائِفِ، وَأَمَرَهَ أَنْ يُقِيمَ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدًا ابْنِي هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيِّ بِالْمَدِينَةِ مُهَانَيْنِ لِكَوْنِهِمَا خَالَيْ هِشَامٍ، ثُمَّ يَبْعَثُ