سَعْدٌ ذَلِكَ وَبَعَثَ مَعَ ابْنِ أَخِيهِ جَيْشًا كَثِيفًا يُقَارِبُ اثْنَيْ عَشَرَ الْفًا، مِنْ سَادَاتِ المسلمين ووجوه المهاجرين والأنصار، ورؤوس الْعَرَبِ.

وَذَلِكَ فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بَعْدَ فَرَاغِهِمْ مِنْ أَمْرِ الْمَدَائِنِ، فَسَارُوا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الْمَجُوسِ وَهُمْ بِجَلُولَاءَ قَدْ خَنْدَقُوا عَلَيْهِمْ، فَحَاصَرَهُمْ هَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ، وَكَانُوا يَخْرُجُونَ مِنْ بَلَدِهِمْ لِلْقِتَالِ فِي كُلِّ وَقْتٍ فَيُقَاتِلُونَ قِتَالًا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ.

وَجَعَلَ كِسْرَى يَبْعَثُ إِلَيْهِمُ الْأَمْدَادَ، وَكَذَلِكَ سَعْدٌ يَبْعَثُ الْمَدَدَ إِلَى ابْنِ أَخِيهِ، مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى.

وَحَمِيَ الْقِتَالُ، وَاشْتَدَّ النِّزَالُ، وَاضْطَرَمَتْ نَارُ الْحَرْبِ، وَقَامَ فِي النَّاسِ هَاشِمٌ فَخَطَبَهُمْ غَيْرَ مَرَّةٍ، فَحَرَّضَهُمْ عَلَى الْقِتَالِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ.

وَقَدْ تَعَاقَدَتِ الْفُرْسُ وَتَعَاهَدَتْ، وَحَلَفُوا بِالنَّارِ أَنْ لَا يَفِرُّوا أَبَدًا حَتَّى يُفْنُوا الْعَرَبَ.

فَلَمَّا كَانَ الْمَوْقِفُ الْأَخِيرُ وَهُوَ يَوْمُ الْفَيْصَلِ وَالْفُرْقَانِ، تَوَاقَفُوا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ حَتَّى فَنِيَ النُّشَّابُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، وَتَقَصَّفَتِ الرِّمَاحُ مِنْ هَؤُلَاءِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ،

وَصَارُوا إِلَى السُّيُوفِ والطبر زنيات، وحانت صلاة الظهر فصلى المسلمون إيماءاً، وَذَهَبَتْ فِرْقَةُ الْمَجُوسِ وَجَاءَتْ مَكَانَهَا أُخْرَى، فَقَامَ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو فِي الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: أَهَالَكُمْ مَا رَأَيْتُمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ؟ قَالُوا: نَعَمْ إِنَّا كَالُّونَ وَهُمْ مُرِيحُونَ، فَقَالَ: بَلْ إِنَّا حَامِلُونَ عَلَيْهِمْ وَمُجِدُّونَ فِي طَلَبِهِمْ، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا، فَاحْمِلُوا عَلَيْهِمْ حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ حتَّى نُخَالِطَهُمْ، فَحَمَلَ وَحَمَلَ النَّاسُ، فَأَمَّا الْقَعْقَاعُ فَإِنَّهُ صَمَّمَ الْحَمَلَةَ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْفُرْسَانِ وَالْأَبْطَالِ وَالشُّجْعَانِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى بَابِ الْخَنْدَقِ، وَأَقْبَلَ اللَّيْلُ بِظَلَامِهِ وَجَالَتْ بَقِيَّةُ الْأَبْطَالِ بِمَنْ مَعَهُمْ فِي النَّاسِ وَجَعَلُوا يَأْخُذُونَ فِي التَّحَاجُزِ مِنْ أَجْلِ إِقْبَالِ اللَّيْلِ وَفِي الْأَبْطَالِ يَوْمَئِذٍ طُلَيْحَةُ الأسدي، وعمرو بن معدي كرب الزبيدي، وَقَيْسُ بْنُ مَكْشُوحٍ، وَحُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ.

وَلَمْ يَعْلَمُوا بِمَا صَنَعَهُ الْقَعْقَاعُ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَلَمْ يَشْعُرُوا بِذَلِكَ، لَوْلَا مُنَادِيهِ يُنَادِي: أَيْنَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ، هَذَا أَمِيرُكُمْ عَلَى بَابِ خَنْدَقِهِمْ.

فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ الْمَجُوسُ فَرُّوا وَحَمَلَ الْمُسْلِمُونَ نَحْوَ الْقَعْقَاعِ بْنِ عَمْرٍو فَإِذَا هُوَ عَلَى بَابِ الْخَنْدَقِ قَدْ مَلَكَهُ عَلَيْهِمْ، وَهَرَبَتِ الْفُرْسُ كُلَّ مَهْرَبٍ، وَأَخَذَهُمُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَقَعَدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ مِائَةُ أَلْفٍ حَتَّى جَلَّلُوا وَجْهَ الْأَرْضِ بِالْقَتْلَى، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ جَلُولَاءَ.

وَغَنِمُوا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالسِّلَاحِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ قَرِيبًا مِمَّا غَنِمُوا مِنَ الْمَدَائِنِ قَبْلَهَا.

وَبَعَثَ هَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ الْقَعْقَاعَ بْنَ عَمْرٍو فِي إِثْرِ مَنِ انْهَزَمَ مِنْهُمْ وَرَاءَ كِسْرَى، فَسَاقَ خَلْفَهُمْ حَتَّى أَدْرَكَ مِهْرَانَ مُنْهَزِمًا (?) ، فَقَتَلَهُ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو، وَأَفْلَتَهُمُ الْفَيْرُزَانُ فَاسْتَمَرَّ مُنْهَزِمًا، وَأَسَرَ سَبَايَا كَثِيرَةً بَعَثَ بِهَا إِلَى هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ، وَغَنِمُوا دَوَابَّ كَثِيرَةً جِدًّا.

ثُمَّ بَعَثَ هَاشِمٌ بِالْغَنَائِمِ وَالْأَمْوَالِ إِلَى عَمِّهِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فَنَفَلَ سَعْدٌ ذَوِي النَّجْدَةِ، ثُمَّ أَمَرَ بِقَسْمِ ذَلِكَ على الغانمين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015