لكان الشحم إلى البهيمة أسرع، وعن ذات العقل والهمّة أبطأ؛ ولأن العقل مقرون بالحذر والإهتمام، ولأن الغباء مقرون بفراغ البال والأمن، فلذلك البهيمة تقنو «1» شحما في الأيام اليسيرة، ولا تجد ذلك لذي الهمة البعيدة. ومتوقع البلاء في البلاء، وأن سلم منه، والغافل في الرجاء إلى أن يدركه البلاء. ولولا أنك تجد هذه الأبواب وأكثر منها مصوّرة في كتابي الذي سمّي «كتاب المسائل» «2» لأتيت على كثير منه في هذا الكتاب.
فأما ما سألت من احتجاج الأشحّاء، ونوادر أحاديث البخلاء، فسأوجدك ذلك في قصصهم، إن شاء الله تعالى، مفرّقا وفي احتجاجهم مجملا، فهو أجمع لهذا الباب من وصف ما عندي، دون ما انتهى إليّ من أخبارهم، على وجهها. وعلى أن الكتاب أيضا يصير أقصر، ويصير العار فيه أقل.
ونبتدىء برسالة «سهل بن هارون» ثم بطرف أهل «خراسان» ، لإكثار الناس في أهل خراسان.
ولك في هذا الكتاب ثلاثة أشياء: تبيّن حجّة طريفة، أو تعرّف حيلة لطيفة، أو استفادة نادرة عجيبة. وأنت في ضحك منه، إذا شئت، وفي لهو، إذا مللت الجدّ.
وأنا أزعم أن البكاء صالح للطبائع، ومحمود المغبّة «3» ، إذا وافق الموضع، ولم يجاوز المقدار، ولم يعدل عن الجهة، ودليل على الرقة، والبعد من القسوة، وربما عدّ من الوفاء، وشدّة الوجد على الأولياء. وهو من أعظم ما تقرب به العابدون، واسترحم به الخائفون.