البخلاء للجاحظ (صفحة 167)

غايته، وصار إماما، وإنه كان إذا صار في يده الدرهم، خاطبه وناجاه وفدّاه واستبطأه. وكان مما يقول له: «كم من أرض قد قطعت، وكم من كيس قد فارقت، وكم من خامل رفعت، ومن رفيع قد أخملت «1» . لك عندي أن لا تعرى ولا تضحى «2» » ثم يلقيه في كيسه ويقول له: اسكن على اسم الله في مكان لا تهان ولا تذلّ ولا تزعج منه» . وأنه لم يدخل فيه درهما قط فأخرجه.

وأن أهله الّحوا عليه في شهوة، وأكثروا عليه في إنفاق درهم، فدافعهم ما أمكن ذلك. ثم حمل درهما فقط. فبيناه ذاهب إذ رأى حوّاء «3» قد أرسل على نفسه أفعى لدرهم يأخذه، فقال في نفسه: «اتلف شيئا تبذل فيه النفس، بأكلة أو شربة، والله ما هذا إلا موعظة لي من الله» . فرجع إلى أهله، ورد الدرهم الى كيسه. فكان أهله في بلاء، وكانوا يتمنون موته والخلاص منه بالموت، والحياة بدونه.

فلما مات وظن أنهم قد استراحوا منه، قدم إبنه، فاستولى على ماله وداره، ثم قال: «ما كان أدم أبي؟ فإن أكثر الفساد إنما يكون في الإدام» . قالوا: «كان يتأدّم «4» بجبنة عنده» . قال: «ارونيها» «5» .

فإذا فيها حزّ كالجدول من أثر مسح اللقمة. قال: «ما هذه الحفرة» ؟

قالوا: كان لا يقطع الجبن، وإنما كان يمسح على ظهره، فيحفر كما ترى قال: «فهذا أهلكني، وبهذا أقعدني هذا المقعد. لو علمت ذلك ما صلّيت عليه» . قالوا: «فأنت كيف تريد أن تصنع» ؟ قال: «أضعها من بعيد، فأشير اليها باللقمة» .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015