البخلاء للجاحظ (صفحة 150)

كلّه بين شرب وبول، كيف يأخذه النوم» ؟

فإن قال: «ما هو إلا أن أضع رأسي، فإنما أنا حجر ملقى إلى الصبح» ، قال: «ذلك لأن الطعام يسكر ويخدّر ويختر «1» ويبلّ الدماغ ويبلّ العروق ويسترخي عليه جميع البدن. ولو كان في الحقّ لكان ينبغي أن تنام الليل والنهار» .

فإن قال: «أصبحت وأنا لا أشتهي شيئا» ، قال: إياك أن تأكل قليلا ولا كثيرا، فإن أكل القليل على غير شهوة أضرّ من الكثير مع الشهوة، قال الخوان: «ويل لي مّمن قال لا أريد. وبعد، فكيف تشتهي الطعام اليوم، وأنت قد أكلت بالأمس طعام عشرة» ؟

وكان كثيرا ما يقول لندمائه: «إياكم والأكل على الخمار «2» . فإن دواء الخمار الشراب. الخمار تخمة، والمتخم إذا أكل مات لا محالة.

وإياكم والإكثار في عقب الحجامة «3» والفصد «4» والحمّام. وعليكم بالتخفيف في الصيف كله. واجتنبوا اللحم خاصّة» .

وكان يقول: ليس يفسد الناس إلا الناس. هذا الذي يضرط ويتكلم الكلام البارد وبالطرف المستنكرة، لو لم يصب من يضحك له، وبعض من يشكره ويتضاحك له، أو ليس هو عنده إلا أن يظهر العجب به، لما ضرط الضارط، ولما تكلف النوادر إلا أهله. قول الناس للأكول النّهم وللرّغيب الشرّة: «فلان حسن الأكل» هو الذي أهلكه وزاد في رغبه، حتى جعل ذلك صناعة، وحتى ربما أكل، لمكان قولهم وتقريبهم وتعجّبهم، ما لا يطيقه فلا يزال قد هجم على قوم، فأكل زادهم وتركهم

طور بواسطة نورين ميديا © 2015