عاندوا الحق، وخالفوا الأمم «1» ؟ وما هذا التركيب المتضاد، والمزاج المتنافي؟ وما هذا الغباء الشديد الذي الى جنبه فطنة عجيبة؟ وما هذا السبب الذي خفي به الجليل الواضح، وأدرك به الجليل الغامض؟! وقلت: وليس عجبي ممن خلع عذاره في البخل، وأبدى صفحته للذمّ، ولم يرض من القول إلا بمقارعة الخصم، ولا من الإحتجاج إلا بما رسم في الكتب؛ ولا عجبي من مغلوب على عقله، مسخّر لإظهار عيبه، كعجبي ممن قد فطن لبخله، وعرف إفراط شحّه، وهو في ذلك يجاهد نفسه، ويغالب طبعه، ولربما ظن أن قد فطن له، وعرف ما عنده، فموّه شيئا لا يقبل التمويه، ورقع خرقا لا يقبل الرقع. فلو أنه كما فطن لعيبه، وفطن لمن فطن لعيبه، فطن لضعفه عن علاج نفسه، وعن تقويم أخلاقه، وعن استرجاع ما سلف من عاداته، وعن قلبه أخلاقه المدخولة «2» إلى أن تعود سليمة، لترك تكلّف ما لا يستطيعه، ولربح الإنفاق على من يذمّه، ولما وضع على نفسه الرقباء، ولا أحضر مائدته الشعراء، ولا خالط برد «3» الآفاق، ولا لابس الموكلين بالأخبار، ولاستراح من كدّ الكلفة، ودخل في غمار الأمة.
وبعد، فما باله يفطن لعيوب الناس إذا أطعموه، ولا يفطن لعيب نفسه إذا أطعمهم؟ وإن كان عيبه مكشوفا، وعيب من أطعمه مستورا؟
ولم سخت نفس أحدهم بالكثير من التبر «4» ، وشحّت بالقليل من الطعم؟ وقد علم أن الذي منع يسير في جنب ما بذل، وأنه، لو شاء أن