وإنما فعل ذلك ليقطع طرفاً من الكفار، ويحد شوكتهم، وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً أي: ليختبر المؤمنين منه اختباراً حسناً، ليظهر شكرهم على هذه النعمة، أو لينعم عليهم نعمة عظيمة بالنصر والغنيمة ومشاهدة الآيات، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لاستغائتهم ودعائهم، عَلِيمٌ بنياتهم وأحوالهم. ذلِكُمْ أي: البلاء الحسن، أو القتل، أو الرمي، واقع لا محالة، أو الأمر ذلكم، وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ أي: مضعف كيد الكافرين، ومبطل حيلهم، أي: المقصود بذلك القتل أو الرمي إبلاء المؤمنين، وتوهين كيد الكافرين وإبطال حيلهم.
الإشارة: يقول الحق جلّ جلاله للمريدين المتوجهين لحضرة محبوبهم: فلَمْ تقتلوا نفوسكم بمجاهدتكم إذ لا طاقة لكم عليها، ولكن الله قتلها بالنصر والتأييد، حتى حييت بمعرفته، ويقول للشيخ: وما رميت القلوب بمحبتي ومعرفتي، ولكن الله رمى تلك القلوب بشيء من ذلك، وإنما أنت واسطة وسبب من الأسباب العادية، لا تأثير لك في شيء من ذلك.
حُكي أن الحلاج، لما كان محبوساً للقتل، سأله الشبلي عن المحبة، فقال: الغيبة عما سوى المحبوب، ثم قال:
يا شبلي، ألست تقرأ كتاب الله؟ فقال الشبلي: بلى، فقال: قد قال الله لنبيه- عليه الصلاة والسلام-: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى، يا شبلى إذا رَمَى اللَّهُ قَلْبَ عبده بِحَبََّةٍ من حُبّه، نادى عليه مدى الأزمان بلسان العتاب. هـ. والمقصود بذلك: تخصيص أوليائه المقربين بالمحبة والمعرفة والتمكين، وتوهين كيد الغافلين المنكرين لخصوصية المقربين. والله تعالى أعلم.
ولما أرادت قريش الخروج إلى غزوة بدر، تعلقوا بأستار الكعبة، وطلبوا الفتح، وقالوا: اللهم انصر أعلى الجندين، وأهدى الفئتين، وأكرم الحزبين، كما أشار إلى ذلك الحق تعالى بقوله:
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
يقول الحق جلّ جلاله لكفار مكة على جهة التهكم: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا أي: تطلبوا الفتح، أي: الحكم على أهْدى الفئتين وأعلى الجندين وأكرم الحزبين، فَقَدْ جاءَكُمُ الحكم كما طلبتم، فقد نصر الله أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين، وهو محمد صلى الله عليه وسلّم وحزبه، وَإِنْ تَنْتَهُوا عن الكفر ومعاداة الرسول، فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لتضمنه سلامة الدارين وخير المنزلين، وَإِنْ تَعُودُوا لمحاربته نَعُدْ لنصره، وَلَنْ تُغْنِيَ تدفع عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ جماعتكم شَيْئاً من المضار وَلَوْ كَثُرَتْ فئتكم، إذ العبرة بالنصرة لا بالكثره، وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ بالنصر والمعونة.