يقول الحق جلّ جلاله: كثيرًا من القرى أَهْلَكْناها لما عصت أمرنا، وخالفت ما جاءت به رسلنا، فَجاءَها بَأْسُنا أي: عذابنا بَياتاً أي: ليلاً، كقوم لوط قلبت مدينتهم، عاليها سافلها، وأرسلت عليهم الحجارة بالسَّحَر، أَوْ هُمْ قائِلُونَ نصف النهار، كقوم شعيب، نزلت عليهم نار فأحرقتهم، وهو عذاب يوم الظلة، وإنما خص الوقتين لأنهما وقت دعة واستراحة، فيكون مجيىء العذاب فيهما أفظع.
فَما كانَ دَعْواهُمْ أي: دعاؤهم واستغاثتهم حين جاءهم بأسنا، إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ أي: إلا اعترافهم بظلمهم فيما كانوا عليه وبطلانه، تحسرًا، أو: ما كان دعاؤهم إلا قولهم:.. يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ، فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (?) : ميتين، فإذا أحييناهم وبعثناهم من قبورهم، فو الله فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ عن قبول الرسالة وإجابة الرسل، وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ عما أُجيبوا به، والمراد بهذا السؤال: توبيخ الكفرة وتقريعهم، وأما قوله تعالى: وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (?) فالمنفي: سؤال استعلام لأن الله أحاط بهم علمًا، أو الأول في موقف الحساب، وهذا عند حصول العقاب.
فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ أي: على الرسل والأمم، فنقص على الرسل ما قُوبلوا به من تصديق أو تكذيب، وعلى الأمم ما قابلوا به الرسل من تعظيم أو إنكار، أو فلنقص على الرسل ما علمنا من قومهم حين يقولون: لاَ عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (?) . نقص ذلك عليهم بِعِلْمٍ وتحقيق لاطلاعنا على أحوالهم، وإحاطة علمنا بسرهم وعلانتيهم. وَما كُنَّا غائِبِينَ عنهم، فيخفى علينا شيء من أحوالهم، بل كنا حاضرين لديهم، محيطين بسرهم وعلانيتهم.
الإشارة: ما أهلكَ اللهُ قومًا وعذبهم إلا بتضييع الشرائع أو إنكار الحقائق، فمن قام بهما معًا كان مصحوبًا بالسلامة، موصوفًا بالكرامة في الدارين، ومن ضيعهما أو أحدهما لحقه الوبال في الدارين، فإذا لحقه إهلاك لم يسعه إلا الإقرار بالظلم والتقصير، حيث فاته الحزم والتشمير، فإذا ندم لم ينفعه الندم، حيث زلت به القدم، فالبدارَ البدارَ إلى التوبة والانكسار، والتمسك بشريعة النبي المختار، والتحقق بمعرفة الواحد القهار، وصحبة الصالحين الإبرار، والعارفين الكبار، قبل أن تصير إلى قبرك فتجده إما رَوْضَةٌ مِن رِيَاضِ الجَنَّة، أو حُفْرة مِنْ حُفَرِ النار.
وكما أن الحق تعالى يسأل الرسل عما أُجيبوا به، يسأل خلفاءهم- وهم الأولياء والعارفون- عما إذا قُوبلوا من تعظيم أو إنكار، فيرفع من عظمهم في أعلى عليين، ويحط من أنكرهم في محل أهل اليمين. وبالله التوفيق.