الإشارة: القوالب من الطين، والأرواح من نور رب العالمين، فالطينية ظرف لنور الربوبية، الذي هو الروح لأن الروح نور من أنوار القدس، وسر من أسرار الله، فمن نظَّف طينته ولطَّفها ظهرت عليها أسرار الربوبية والعلوم اللدنية، وكُشف للروح عن أنوار الملكوت وأسرار الجبروت، وانخنَست الطينية، واستولت عليها الروح النورانية، ومن لطّخ طينته بالمعاصي وكثّفها باتباع الشهوات، انحجبت الأنوار واستترت، واستولت الطينية الظُلمانية على الروح النُورانية، وحجبتها عن العلوم اللدنية والأسرار القدسية، بحكمته تعالى وعدله وظهور قهره. وبالله التوفيق.
ثم برهن على وحدانيته الخاصة، فقال:
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (3)
قلت: (هو) : مبتدأ، و (الله) : خبره. و (في السموات) : خبر ثان، أي: وهو الله كائن أو موجود فى السموات وفي الأرض بنوره وعلمه. قال تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «1» . و (يعلم سركم وجهركم) : تقرير له.
يقول الحق جلّ جلاله: هذا الذي اختص بالحمد وأبدع الكائنات كلها- هُوَ اللَّهُ ظاهر فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ بنوره وقدرته وعلمه وإحاطته، فلا شريك معه يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ من خير أو شر، فيثيب عليه ويعاقب، ولعله أراد بالسر والجهر ما يظهر من أحوال النفس، وبالمكتسب أعمال الجوارح. فالآية الأولى دليل القدرة التي ختم بها السورة، والآية الثانية دليل البعث، والآية الثالثة دليل الوَحدة.
الإشارة: قال بعض العارفين: الحق تعالى منزّه عن الأين والجهة، والكيف، والمادة، والصورة، ومع ذلك لا يخلو منه أين، ولا مكان، ولا كم، ولا كيف، ولا جسم، ولا جوهر، ولا عرض. لأنه للطفه سارٍ في كل شيء، ولنوريته ظاهر في كل شيء، ولإطلاقه وإحاطته متكيّف بكل كيف، غير متقيد بذلك، فمن لم يعرف هذا ولم يذقه ولم يشهده، فهو أعمى البصيرة، محروم من مشاهدة الحق تعالى. ولابن وفا:
هُوَ الحَقُّ المُحُيطُ بِكُلِّ شيءٍ ... هُوَ الرحمَنُ ذُو العَرشِ المَجيدِ
هَوَ المَشهُودُ في الأشهَادِ يَبدُو ... فَيُخفِيه الشهُودُ عَن الشِّهِيدِ
هَوَ العَينُ العيَانُ لِكُلِّ غَيبٍ ... هُوَ المَقصُودُ مِن بَيتِ القَصِيدِ
جَميعُ العَالِمَينَ له ظِلالٌ ... سُجُودٌ في القَريبِ وَفي البَعِيدِ
وَهَذا القَدرُ في التَّحقِيقِ كافٍ ... فَكُفَّ النَّفسَ عَن طَلَبِ المَزيدِ