عليكم، وَخلق الْأَرْضَ التي تُقلُّكم، وفيها نبات معاشكم في العادة، وفيها قراركم في حياتكم وبعد مماتكم، مشتملة على بحار وأنهار، وفواكه وثمار، وبهجة أزهار ونِوار، وَجَعَلَ الظُّلُماتِ التي تستركم، راحة لأبدانكم وقلوبكم، كظلمات الليل الذي هو محل السكون. وَجعل النُّورَ الذي فيه معاشكم وقوام أبدانكم وأنعامكم.
ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بعد هذا كله، يَعْدِلُونَ عنه إلى غيره، أو يعدلون به سواه، فيُسوَونه في العبادة معه.
قال البيضاوي: وجمع السموات دون الأرض وهي مثلهن لأن طبقاتها مختلفة بالذات، متفاوتة الآثار والحركات، وقدَّمها لشرفها وعلو مكانها. ثم قال أيضًا: وجمع الظلمات لكثرة أسبابها والأجرام الحاملة لها، أو لأن المراد بالظلمة: الضلال، وبالنور: الهُدى. والهدى واحد والضلال متعدد. وتقديمها لتقدم الإعدام على المَلَكَهِ. ومن زعم أن الظلمة عرَضٌ يُضاد النور احتج بهذه الآية، ولم يعلم أن عدم الملكَة كالعمي ليس صِرف العدم حتى لا يتعلق به الجعل. هـ.
الإشارة: أثنى الحق- جل جلاله- على نفسه بإنشاء هذه العوالم، التي هي محل ظهور عظمته وجلاله وجماله وبهائه. فأنشأ سموات الأرواح، التي هي مظهر لشروق أنوار ذاته وصفاته، ومحل لظهور عظمة ربوبيته، وأنشأ أرض النفوس، التي هي مظهر لتصرف أقداره، ومحل لظهور آداب عبوديته، وتجلى بين الضدين بين الظلمات والنور، ليقع الخفاء في الظهور، كما قال بعض الشعراء:
... لقد تكامَلَت الأضدادُ في كامل البها ثم بعد هذا الظهور التام، عدل عن معرفته جلُ الأنام، إلا مَن سبقت له العناية من المِلك العلام. وبالله التوفيق.
ثم برهن على كمال قدرته، فقال:
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)
قلت: (أجل) : مبتدأ. و (مُسَمى) : صفته. و (عنده) : خبر، وتخصيصه بالصفة أغنَى عن تقديم الخبر.
يقول الحق جلّ جلاله: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ أي: ابتدأ خلقكم منه، وهو آدم، لأنه المادة الأولى، وهو أصل البشر. ثُمَّ قَضى أَجَلًا تنتهون في حياتكم إليه، وهو الموت. وَأَجَلٌ مُسَمًّى مُعيَّن للبعث، لا يقبل التغيير، ولا يتقدم ولا يتأخر، عِنْدَهُ استأثر بعلمه، لا مدخل لغيره فيه بعلم ولا قدرة، وهو المقصود بالبيان، ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ أي: تشكُّون في هذا الأجل المسمى الذي هو البعث.
وثُمَّ: لاستبعاد امترائهم بعد ما ثبت عنه أنه خالقهم، وخالق أصولهم ومحييهم إلى آجالهم، فإن مَن قدر على خلق المواد وجمعها، وإيداع الحياة فيها وإبقائها ما شاء، كان أقدر على جمع تلك المواد وإحيائها ثانيًا. قاله البيضاوي.