قال النووي: الغيبة: كلّ ما أفهمت به غيرَك نقصان مسلم عاقل، وهو حرام. هـ. قوله: ما أفهمت ... الخ، يتناول اللفظ الصريح والكناية والرمزَ والتعريضَ والإشارة بالعين والرأس، والتحكية بأن يفعل مثلَه، كالتعارج، أو يحكي كلامَه على هيئته ليُضحك غيره، فهذا كله حرام، إن فهَم المخاطَب تعيين الشخص المغتاب، وإلا فلا بأس، والله تعالى أعلم. ولا فرق بين غيبة الحي والميت، لما ورد: «مَن شتمَ ميتاً أو اغتابه فكأنما شتم ألف نبي، ومَن اغتابه فكأنما اغتاب ألفَ ملَك، وأحبط الله له عمل سبعين سنة، ووضع على قدمه سبعين كيةً من نار» (?) .
والسامع للغيبة كالمغتاب، إلاَّ أن يُغَير أو يقوم، وورد عن الشيخ أبي المواهب التونسي الشاذلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «فإن كان ولا بد من سماعك غيبة الناس- أي: وقع منك- فاقرأ سورة الإخلاص والمعوذتين، واهدِ ثوابها للمغتاب فإن الله يُرضيه عنك بذلك» . هـ.
وعن ابن عباس رضي الله عنه: الغيبة إدامُ كلابِ الناس. هـ. وتشبيههم بالكلاب في التمزيق والتخريق، فهم يُمزقون أعراض الناس، كالكلاب على الجيفة، لا يطيب لهم مجلسٌ إلا بذكر عيوب الناس. وفي الحديث: «رأيت ليلة أُسري بي رجالاً لهم أظفار من نحاس، يَخْمشُون وجوههم ولحومَهم، فقلت: مَنْ هؤلاءِ يا جبريل؟ فقال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم» (?) .
أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً، هذا تمثيل وتصوير لما ينالُه المغتاب من عِرضِ المغتابِ على أفحش وجه. وفيه مبالغات، منها: الاستفهام الذي معناه التقرير، ومنها: فعلُ ما هو الغاية فى الكراهة موصولاً بالمحبة، ومنها: إسناد الفعل إلى أَحَدُكُمْ إشعاراً بأنَّ أحداً مِن الأحدين لا يُحبُّ ذلك، ومنها: أنه لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأ كل لحم مطلق الإنسان، بل جعله أخاً للآكل، ومنها: أنه لم يقتصر على أكل لحم الأخ حتى جعله ميتاً. وعن قتادة: كما تكره إن وجدت جيفة مُدَوّدة أن تأكل منها كذلك فاكْرَه لحم أخيك. هـ.
ولمَّا قررهم بأن أحداً منهم لا يُحب أكل جيفة أخيه عقَّب ذلك بقوله: فَكَرِهْتُمُوهُ أي: وحيث كان الأمر كما ذُكر فقد كرهتموه، فكما تحققت كراهتُكم له باستقامة العقل فاكْرَهوا ما هو نظيره باستقامة الدين.
وَاتَّقُوا اللَّهَ في ترك ما أمِرتم باجتنابه، والندم على ما صدَر منكم منه، فإنكم إن اتقيتم وتُبتم تقبَّل الله توبتكم، وأنعم عليكم بثواب المتقين التائبين، إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ مبالغ في قبول التوبة، وإفاضة الرحمة، حيث جعل التائب كَمَن لا ذَنَب لَهُ، ولم يخص تائباً دون تائب، بل يعم الجميع، وإن كثرت ذنوبه.