يقول الحق جلّ جلاله: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا أي: تقاتلوا. والجمعُ باعتبار المعنى لأن كلّ طائفة جمعٌ كقوله: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا (?) ، فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بالنصح والدعاء إلى حُكم الله تعالى، فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى ولم تتأثر بالنصيحة فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ ترجع إِلى أَمْرِ اللَّهِ إلى حُكمه، أو: إلى ما أُمر به من الصُلح وزوال الشحناء، والفيء: الرجوع، وقد يُسمى به الظل والغنيمة، لأن الظل يرجعُ بعد نسخ الشمس، والغنيمة ترجع من أيدي الكفار إلى المسلمين.
وحكم الفئة الباغية: وجوب قتالها، فإذا كفَّت عن القتال أيديَها تُركت. قال ابن جزي: وأَمَرَ اللهُ في هذه الآية بقتال الفئة الباغية وذلك إذا تبيَّن أنها باغية، فأما الفتنُ التي تقع بين المسلمين فاختلف العلماءُ فيها على قولين، أحدهما: أنه لا يجوز النهوض، في شيء منها ولا القتال، وهذا مذهب سعد بن أبي وقاص، وأبي ذر، وجماعة من الصحابة، وحجتُهم حديث: «قتال المسلم كفر» (?) ، وحديث: الأمر بكسر السيوف في الفتن، والقولُ الثاني:
النهوضُ فيها واجبٌ، لتُكفَ الفئةُ الباغية، وهذا مذهب عليّ، وعائشة، وطلحة، وأكثر الصحابة، وهو مذهب مالك وغيره من الفقهاء، وحجتُهُم هذه الآية. فإذا فرّعنا على القول الأول، فإن دخل داخلٌ على مَن اعتزل الفرقتين منزلَه يريد نفسَه أو مالَه فعليه دفعُه، وإن أدّى ذلك إلى قتله لحديث: «مَن قُتل دون نفسه وماله فهو شهيد» (?) .
وإذا فرّعنا على الثاني، فاختُلف مع مَن يكون النهوضُ من الفئتين؟ فقيل: مع السواد الأعظم، وقيل: مع العلماء، وقيل: مع مَن يُرى أنّ الحق معه. هـ.
قلت: إذا وقعت الحرب بين القبائل فمَن تعدَّت تُربتَها إلى تربة غيرها فهي باغيةٌ، يجب كفُّها، وإذا وقعت بين الحدود فالمشهور: النهوض، ثم يقع السؤال عن السبب فمَن ظهر ظُلمه وَجَب كفّه، فإن أشكل الأمر، فالأمساك عن القتال أسلم. والله تعالى أعلم.
فَإِنْ فاءَتْ عن البغي، وأقلعت عن القتال فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ بفصل ما بينهما على حُكمِ الله تعالى، ولا تكتفوا بمجرد متاركتِهما لئلا يكون بينهما قتال في وقتٍ آخر، وتقييدُ الإصلاح بالعدل لأنه مظنة الحيف لوقوعه بعد المقاتلة، وقد أكد ذلك بقوله: وَأَقْسِطُوا أي: واعدلوا في كل ما تأتون وما تَذرون،