وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ أي: ما تركبونه، يقال: ركبوا في الفلك، وركبوا الأنعام، فَغُلِّبَ المتعدّي بغير واسطة لقوته [على] (?) المتعدي بواسطة، فقيل: تركبونه.
لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ: ولتستعلوا على ظهور ما تركبونه من الفُلك والأنعام، ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ تذكروها بقلوبكم، معترفين بها بألسنتكم، مستعظمين لها، ثم تحمدوا عليها بألسنتكم، وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا أي: ذلَّل لنا هذا المركوب، متعجبين من ذلك وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ مطيقين. يقال: أقرن الشيء: إذا أطاقه، وأصله: وجده قرينه لأن الصعب لا يكون قريناً للضعيف إلا إذا ذلّله الله وسهّله، وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ أي: راجعون. وفيه إيذان بأن حق الراكب أن يذكر عند ركوبه مركب الدنيا، آخر مركبه منها، وهو: الجنازة فيبني أموره في مسيره على تلك الملاحظة، حتى لا يخطر بباله شيء من زينة الدنيا، وملاهيها وأشغالها.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه كان إذا وضع رجله في الركاب، قال: «بسم الله» فإذا استوى على الدابة قال: الحمد لله الذي سخر لنا هذا ... إلى: لَمُنْقَلِبُونَ، ثم كبّر «ثلاثاً، وهلّل ثلاثاً، ثم قال: «اللهم اغفر لي..» (?) ، وحُكي أن قوماً ركبوا، وقالوا: «سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا ... الآية، وفيهم رجل على ناقة لا تتحرك هُزالاً، فقال: إني مقرن لهذه- أي مطيق- فسقط منها لوثبتها، واندقّت عنقه (?) . وينبغي ألا يكون ركوبُ العاقل للشهرة والتلذُّذ، بل للاعتبار، فيحمد الله ويشكره على ما أولاه من نعمه، وسخَّر له من أنعامه.
الإشارة: قد اتفقت الملل كلها على وجود الصانع، إلا من لا عِبْرة به من الفلاسفة، وإنما كفر مَن كفر بالإشراك، أو: بوصف الحق على غير ما هو عليه، أو: بجحد الرسول. وقد تواطأت الأدلة العقلية والسمعية على وجود الحق وظهوره، بظهور آثار قدرته، والصفة لا تُفارق الموصوف، فدلّ بوجود أثاره على وجود أسمائه، وبوجود أسمائه، على وجود أوصافه، وبثبوت أوصافه على وجود ذاته. فأهل السلوك يكشف لهم أولاً عن وجود آثاره، ثم عن أسمائه، ثم عن صفاته، ثم عن شهود ذاته. وأهل الجذب يكشف لهم أولاً عن ذاته، ثم عن أوصافه، ثم عن أسمائه، ثم عن آثاره، فربما التقيا في الطريق، هذا في ترقيه، وهذا في تدليه، كما فى الحكم.