يقول الحق جلّ جلاله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي: المشركين مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ أي: ينسبون خلقها إلى مَن هذا وصفه في نفس الأمر لا أنهم يُعبِّرون عنه بهذا العنوان. واختار هذين الوصفين للإيذان بانفراده بالإبداع والاختراع والتدبير لأن العزة تُؤذن بالغلبة والاقتدار، والعلم يؤذن بالتدبُّر والاختيار، وليُرتب عليه ما يناسبه من الأوصاف، وهو قوله: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً (?) أي:
موضع قرار كالمهد المعلق في الهواء، وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا تسلكونها في أسفاركم لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي: لكي تهتدوا بسلوكها إلى مقاصدكم، أو: بالتدبُّر فيها إلى توحيد ربكم، الذي هو المقصد الأصلي.
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماء بِقَدَرٍ بمقدار يسلم معه العباد، وتحتاج إليه البلاد، على ما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح، فَأَنْشَرْنا بِهِ أي: أحيينا بذلك الماء بَلْدَةً مَيْتاً خالياً عنه الماء والنبات.
وقُرئ: «ميِّتاً» بالتشديد (?) . وتذكيره لأن البلدة بمعنى البلد. والالتفات إلى نون العظمة لإظهار كمال العناية بأمر الإحياء والإشعار بعظيم خطره، كَذلِكَ تُخْرَجُونَ أي: مثل ذلك الإحياء، الذي هو في الحقيقة: إخراج النبات من الأرض، تُخرجون من قبوركم أحياء. وفي التعبير عن إخراج النبات بالإنشاء، الذي هو إحياء الموتى، وعن إحيائهم بالإخراج تفخيم لشأن الإنبات، وتهوين لأمر البعث، لتقويم سَنَنِ الاستدلال، وتوضيح منهاج القياس.
وهذه الجُمل، من قوله الَّذِي جَعَلَ ... : استئناف منه تعالى، وليست من مقول الكفار لأنهم يُنكرون الإخراج من القبور، بل الآية حجة عليهم في إنكار البعث، وكذا قوله: وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها، أي:
أصناف المخلوقات بحذافيرها، على اختلاف أنواعها وألوانها. وقيل: الأزواج: ما كان مزدوجاً، كالذكر والأنثى، والفوق والتحت، والأبيض والأسود، والحلو والحامض، وقيل: كل ما ظهر من الغيب فهو مزدوج. والفرد هو الله.