الكفر، ونُطيع بعد المعصية. فيُجابون بعد قدر عمر الدنيا: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ أي: أو لم نعمركم تعميراً يتذكر فيه المتذكر. وهو متناول لكل عمر يتمكن منه المكلّف من إصلاح شأنه، والتدبُّر في آياته، وإن قصُر، إلا أن التوبيخ في المتطاول أعظم. وقيل: هو ثماني عشرة سنة. وقيل: ما بين العشرين إلى الستين، وقيل: أربعون. وروي أن العبد إذا بلغ أربعين سنة ولم يتب، مسح الشيطان على وجهه. وقال: وجه لا يُفلح أبداً، وقيل: ستون. وعنه صلى الله عليه وسلم: «العمر الذي أعذر الله فيه ابن آدم ستون سنة» «1» ، وفي البخاري عنه عليه السلام: «أعذر الله المرء آخر أجله حتى بلغ ستين سنة» «2» .
وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ أي: الرسول عليه السلام، أو: الكتاب، وقيل: الشيخوخة، وزوال السن، وقيل: الشيب. قال ابن عزيز: وليس هذا شيء لأن الحجة تلحق كل بالغ وإن لم يشب. وإن كانت العرب تسمي الشيب النذير. هـ. ولقوله تعالى بعدُ: فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ، فإنه يتعين كونه الرسول، وهو عطف على معنى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ لأن لفظه استخبار، كأنه قيل: قد عمَّرناكم وجاءكم النذير. قال قتادة: احتج عليهم بطول العمر، وبالرسول، فانقطعت حجتهم. قال تعالى: فَذُوقُوا العذاب فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ يدفع العذاب عنهم.
الإشارة: الذين كفروا بطريق الخصوصية، وأنكروا وجود التربية بالاصطلاح، فبقوا مع نفوسهم، لهم نار القطيعة ولو دخلوا الجنة الحسية، لا يُقضى عليهم فيموتوا، ويرجعوا إلى الاستعداد بدخول الحضرة، ولا يُخفف عنهم من عذاب حجاب الغفلة، بل يزيد الحجاب بتراكم الحظوظ، ونسج الأكنة على القلوب، كذلك نجزي كل كفور وجحود لطريق التربية. وهم يصطرخون فيها، بلسان حالهم، قائلين: ربنا أخرجنا، ورُدّنا إلى دار الفناء، نعمل صالحاً غيرَ الذي كنا نعملُ، حتى ندخل، كما دخلها أهل العزم واليقظة؟ فيقال لهم: أو لم نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تذكر، وجاءكم النذير، مَن ينذركم وبال القطيعة، ويُعرفكم بطريق الحضرة، فأنكرتموه، فذُوقوا وبال القطيعة، فما للظالمين من نصير.
ولمّا كان الكفر والإيمان من أعمال القلوب، قد يخفى على الناس، أخبر أن الله هو مطلع على ما فيها، فقال:
إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (39)