يعلمون علماً لا يخالجه شك ولا وَهْم لإمْعانِهم النظر فيها، أو: هِبَةٌ من الله تعالى. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ يقضي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي: بين الأنبياء وأممهم، أو: بين المؤمنين والمشركين، فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من الدين، فيظه المُحِقُّ من المبطل.
الإشارة: أئمة الهدى على قسمين: أئمة يهدون إلى شرائع الدين، وأئمة يهدون إلى التعرف بذات رب العالمين، أئمة يهدون إلى معرفة البرهان، وأئمة يهدون إلى معرفة العيان. الأولون: من عامة أهل اليمين، والآخرون: من خاصة المقربين. الأولون صبروا على حبس النفس على ذل التعلم، والآخرون صبروا على حبس النفس على الحضور مع الحق على الدوام. صبروا على مجاهدة النفوس، حتى وردوا حضرة القُدُّوس. قال القشيري، في شأن القسم الثاني: لمّا صبروا على طلبنا سَعِدوا بوجودنا، وتعدّى ما نالوا من أفضالنا إلى متَّبِعِيهم، وانبسط شعاعُ شموسهم على جميع أهلِيهم، فهم للخلق هُداةً، وفي الدين عيون، وللمسترشدين نجوم. هـ.
وفي الإحياء: للإيمان ركنان: أحدهما: اليقين، والآخر: الصبر. والمراد باليقين: المعارف القطيعة، الحاصلة بهداية اللهِ عَبْدَهُ إلى أصول الدين، والمراد بالصبر، العمل بمقتضى اليقين إذ النفس تعرف أن المعصية ضارة والطاعة نافعة. ولا يمكن ترك المعصية والمواظبة على الطاعة إلا بالصبر. فيكون الصبر نصف الإيمان لهذا الاعتبار. هـ. وقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ..، قال القشيري: يحكم بينهم، فيُبين المقبول من المردود، والمهجور من الموصول، والرّضي من الغَويّ، والعدو من الوليّ. فكم من بَهجةٍ دامت هناك! وكم من مهجةٍ ذابت كذلك. هـ.
ثم ذكّرهم بمن سلف قبلهم، فقال:
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26)
قلت: فاعل «يهد» : هو الله، بدليل قراءة زيد عن يعقوب «نهد» بالنون، ولا يجوز أن يكون الفاعل «كم» لأن الاستفهام له صدر الكلام، فلا يعمل فيه ما قبله.
يقول الحق جلّ جلاله: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ أي: يُبين لهم الله تعالى ما يعتبرون به، فينظروا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ كعاد، وثمود، وقوم لوط، يَمْشُونَ يعني: قريشاً، فِي مَساكِنِهِمْ حين