ومن آداب الداخل في السوق: أن يكون ماشياً على رجليه، لا راكباً، كما وصف الله تعالى الرسل- عليهم السلام. وفي قوله تعالى: وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ: تسلية لمن يُبْتَلَى من الأولياء، وتهوين له على ما يلقاه من شدائد الزمان، وإذاية الإخوان، وجفوة الناس. وبالله التوفيق.
ثم ذكر مقالة أخرى من أقاويل الكفرة ليبطلها كما أبطل ما قبلها، فقال:
وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22) وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24)
قلت: (وقال) : عطف على: (وقالوا مال هذا الرسول ... ) إلخ، ووضع الموصول موضع الضمير للتنبيه بما في حيز الصلة على أن ما حكى عنهم من الشناعة بحيث لا يصدر ممن يعتقد المصير إلى الله- عزَّ وجَلَّ-.
يقول الحق جلّ جلاله: وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا أي: لا يتوقعون الرجوع إلينا بالبعث، أو حسابنا المؤدي إلى سوء العذاب، الذي تستوجبه مقالاتهم الشنيعة. والحاصل: أنهم يُنكرون البعث بالكلية، فأطلق الرجاء على التوقع. وقيل: لا يخافون لقاءنا لأن الرجاء في لغة تهامة: الخوف، قالوا: لَوْلا هلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ رسلاً دون البشر، أو: يشهدون بنبوة محمد ودعوى رسالته، أَوْ نَرى رَبَّنا جهرة، فيخبرنا برسالته، ويأمرنا باتباعه، وإنما قالوا ذلك عناداً وعتواً.
قال تعالى: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أي: أضمروا الاستكبار، وهو الكفر والعناد في قلوبهم، أو: عظموا فى أنفسهم حتى اجترءوا على التفوه بمثل هذه العظيمة الشنعاء، وَعَتَوْا أي: تجاوزوا الحد في الظلم والطغيان عُتُوًّا كَبِيراً بالغاً أقصى غاياته، أي: إنهم لم يجترءوا على هذا القول العظيم إلا لأنهم بلغوا غاية الاستكبار، وأقصى العتو، حتى أمَّلوا نيل المشاهدة والمعاينة والمفاوضة التي اختص بها أكابر الرسل وخاصة الأولياء، بعد تطهير النفوس وتصفية القلوب والأرواح. وهذا كقولهم: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ ... إلى قوله: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا «1» . ولم يكتفوا بما رأوا من المعجزات القاهرة فذهبوا في الاقتراح كل مذهب، حتى منَّتهم أنفسهم الخبيثة أمالي سُدت دونها مطامع النفوس القدسية. واللام: جواب قسم محذوف، أي: والله لقد استكبروا..
الآية. وفيه من الدلالة على قُبح ما هم عليه، والإشعار بالتعجب من استكبارهم وعتوهم، ما لا يخفى.