وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ جبالاً رواسي أرست الأرض كراهة أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ تميل وتضطرب لأن الأرض قبل أن تُخلق فيها الجبال كانت كرة خفيفة بسيطة، وكان من حقها أن تتحرك كالسفينة على البحر، فلما خُلقت الجبال تقاومت جوانبها بثقلها نحو المركز، فصارت كالأوتاد التي تمنعها عن الحركة. وقيل: لما خلق الله الأرض جعلت تمور- أي: تتحرك- فقالت الملائكة: ما يستقر أحد على ظهرها، فأصبحت وقد أرْسيَتْ بالجبال.
وَأَنْهاراً أي: وجعل فيها أنهارًا تطرد لسقي الناس والبهائم، وسائر المنافع، وذكره بعد الجبال لأن الغالب انفجارها منها، وَسُبُلًا أي: وجعل فيها طُرقًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ لمقاصدكم، أو لمعرفة ربكم، بالنظر في دلالة هذه المصنوعات المتقدمة، على صانعها.
وَجعل فيها عَلاماتٍ: معالم يَسْتَدِلُّ بها السابلة على معرفة الطرق من الجبال، والمناهل، والرياح، وغير ذلك، وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ إلى الطرق بالليل، في البراري والبحار، والمراد بالنجم: الجنس، بدليل قراءة: «وبالنُّجُمِ» بضمتين على الجمع. وقيل: المراد: الثريا، والفرقدان وبنات نعش (?) ، والجَدْي. والضمير لقريش لأنهم كانوا كثيري الأسفار للتجارة، مشهورين بالاهتداء في مسايرهم بالنجوم، وإخراج الكلام عن سنن الخطاب، وتقديم النجم، وإقحام الضمير للتخصيص، كأنه قيل: وبالنجم خصوصًا، هؤلاء خصوصًا يهتدون، يعني: قريشًا، فالاعتبار بذلك، والشكر عليهم ألزم لهم وأوجب عليهم. هـ. وأصله للزمخشري.
الإشارة: هو الذي أنزل من سماء الغيوب ماء، أي: علمًا لدنيًا تحيا به القلوب، وتتطهر به النفوس من أدناس العيوب. لكم منه شراب، أي: خمرة تحيا بها الأرواح، وتغيب عن حضرة الأشباح، ويخرج منه على الجوارح أشجار العمل، تثمر بالأذواق، فيه تسيمون، أي: في أذواق العمل ترعون بنفوسكم وقلوبكم، ثم ترحلون عنه إلى حلاوة شهود ربكم، فمن وقف مع حلاوة العمل، أو المقامات أو الكرامات، بقي محجوبًا عن ربه، وعليه نبّه صاحب البردة بقوله:
وَراعِها، وهْيَ في الأعْمَالِ سَائِمَةٌ ... وإنْ هِيَ اسْتَحْلَتِ المَرْعَى فلا تُسِم
وقال في الحكم: «ربما وقفت القلوب مع الأنوار، كما حُجِبَت النفوس بكثائف الأغيار» .
وقال الششتري:
وقد تحْجُبُ الأنوار للعبْدِ مثْل ما ... تبعد (?) من إظلام نفْس حوَتْ ضِغنا.